أحمد الوحش يكتب: مصير المهرجانات الشعبية
بقلم: أحمد الوحش
في الماضي وقفت السيدة أم كلثوم -كوكب الشرق- في مختلف المسارح يصفق لها الحضور بمختلف جنسياتهم منبهرين بصوتها، فكانت أيقونة وسفيرة مصر في عالم الفن. اتفق عليها المصريون والعالم أجمع؛ لأنها موهبة فريدة لن تتكرر في تاريخ الغناء المصري والعالمي.
اليوم أصبحت المهرجانات الشعبية واقعاً في المجتمع المصري، وامتدت لتصل إلى بعض الدول العربية؛ يرى كثيرون أنها تعبر عن حالهم ومرآة تعكس واقعهم، وآخرون لا يصنفونها من الفنون ويعتبرونها منافية للآداب المجتمعية.
اعتمدت المهرجانات على الفكر السائد ولغة الشارع وإثارة الجدل، فانتشرت بين الناس كالنار في الهشيم، صادف ذلك ضعفٌ عامٌ في الفنون التي لم تعكس حياة الشارع فترة طويلة. لن أخوض في التفاصيل؛ لطالما تحدث فيها كثيرٌ من الكُتاب والمفكرين، لكن سأناقشك اليوم عن مستقبل المهرجانات من زاوية أخرى.
بدأت المهرجانات الشعبية بالغناء ومدح المخدرات والبلطجة والسلاح…إلخ من فكر الشباب غير المثقفين تحت رايةِ التجديد، في الجهة الأخرى أعلن عليهم فريق المحافظين الحرب متبعاً خطأه المُعتاد، وهو نقد كل ما يخالف مبادئهم وآداب المجتمع، فحدثت الضجة وانتشرت تلك الأغاني بين الطبقات المختلفة، وأصبحنا اليوم نسمعها في أرقى الحفلات، لكن هل سيدوم هذا الحال؟
ستسمع هذا يدافع بشدة: “الأغاني الشعبية هتفضل وبقت أمر واقع”، وذاك يهاجم بيأسٍ أشد كأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة: “عيب الذوق العام رايح بينا على فين”.
الأغاني الشعبية تفتقر إلى كثيرٍ من مقومات الفن؛ الأمر لا يقتصر على عدم انتقاء الكلمات أو الإيقاعات الموسيقية غير المتناسقة أو ركاكة الصوت…إلخ، بل نمطية هذه الأغاني أيضاً، فالتطوير هو المستقبل وضمان البقاء. تأمل هذه الأغاني.. ستلاحظ أنها على شاكلةٍ واحدة، الشريط ذاته كل مرة… ماذا بعد الافتخار بإدمان المخدرات والبلطجة وخرق القانون؟
لنعود بالزمان إلى ستينيات القرن الماضي، هناك أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب -رحمهم اللّٰه- لا يزال أصواتهم منذ ذلك الحين خالدة في قلوبنا حتى الآن، هنا يطرح السؤال نفسه، لماذا لا نشعر بالملل أبداً من أغانيهم؟
لأن لكلِّ أغنيةٍ كلماتٍ مميزة، وغرضاً مختلفاً، وموسيقى خاصة بها، وطبقةَ صوت تتناسب مع هذا التباين، عندما تسمع “أغداً ألقاك” و”الأطلال”، ستلاحظ أن تأثيرَ الأغنيتين عليك بعد سماعهما مختلف، فتستمع إلى تلك الأغنية اليوم وغداً تستمع إلى أغنية أخرى، ثم تعود إلى الأغنية الأولى بعد أسبوع دون ملل، وهكذا دواليك، فأنت مستمعٌ دائمٌ لأم كلثوم؛ لأن أساسات الفن في الزمن الجميل تعتمد على ثقافةٍ راقيةٍ صحيحةٍ قابلةٍ للتطوير، وخرج الفنُ آنذاك من قالبِ النمطيةِ والجمود.
إذا تأملنا حال المغنيين الشعبيين الآن، فأغانيهم الجديدة يتم نسيانها في أقل من شهر، فلماذا يمل الناس بمرور الوقت من الاستماع إلى نفس الأغنية؟
لأنهم لا يملكون صوتاً، فيعتمدون على الأصوات الإلكترونية ذات الطابع الموحد، كما أن هدف وموسيقى وكلمات الأغنية ذاتهم كل مرة.. لذلك هم بحاجة دائماً لعدم التوقف عن إصدار الأغاني بشكل أسبوعي أو شهري؛ لأن المستمع يهجر الأغنية بعد فترةٍ ولا يعود إليها، الأمر الذي يعكس ضعف وهشاشة الأساسات الذي يقوم عليها هذا “الفن”، هذا إن صح أن نسميه فناً.
يتساءل البعض هل يمكن تطوير الأغاني الشعبية؟ من الصعب للغاية تطوير الأغاني الشعبية لكثيرٍ من الأسباب؛ أهمها الاعتماد على ثقافةٍ جامدةٍ خاطئةٍ وقالبٍ محدد، كما ساهم انعدام الموهبة وركاكة الصوت في نمطية هذه الأغاني، فهي صادرة عن شخصٍ لا يتخطى فكرهُ وثقافته الحي الذي يعيش فيه، وإن تغيرت السمة العامة لهذه المهرجانات ستفقد ميزتها وتأثيرها على الشارع، إنها بين مطرقةِ الملل وسندانِ النسيان.
عزيزي القارئ، إنها مسألة وقت، وستكون تلك الأساسات الهشة -الذي قام عليها هذا النوع من “الضجيج”- هي نقطة الضعف وزر التدمير الذاتي لاحقاً؛ فكل ما يقبل التطوير والتجديد يستمر، وكل ما هو نمطي جامد نهايته واحدة، وهي الاندثار.