“أصعب قرار في حياة الطبيب”
بقلم د. أحمد الوحش
في مثل هذا الوقت من عام ٢٠٢١م كنت في فترة الامتياز، سأشارككم سطورًا أعدت كتابتها من فصل “بداية الطريق” بمذكراتي الشخصية.
في سنة التدرب حالي كحال أغلب أطباء الامتياز تائهٌ بين مستقبلٍ ضبابي، وحاضرٍ أحاول أن ألملمه، وماضٍ خسرته، وكل ما يشغل بالي حاليًا هو اقتراب موعد اختيار رغبات التكليف، لكن أكثر ما يقلقني حقًا هو اختياري لتخصصي، ولا أعرف حتى الآن أيَّ التخصصات سأختار، وأيها أقرب إلى قلبي، فالأمر لا يقتصر فقط على رغبتي المتغيرة، إنما مجموعي أيضًا، ومجموع الزملاء، وأولوية اختياراتي للتخصص، وأماكنه، وفرص التعلم.
حقًا! يا له من اختيار مصيري معقد! إنني أعي جيدًا أن كثيرين يقدمون على تغيير تخصصاتهم بعد قضاء فترة ليست قصيرة في نيابتهم، وقد تصل لسنوات، إنه قرار صعب للغاية، ولطالما تساءلت أي أسباب أو ظروفٍ تلك التي تجبر هؤلاء الأطباء على العودة في قرارهم بعد خسارة سنين من الخبرة؟
لابد أن الأمر حقًا يستحق التأني في الاختيار، والتمعن في التفكير، ومحاولة فهم طبيعة كل تخصص، وكل شيء حول مستقبله قبل أن تقبل على اختياره، وهو ما يحتاج إلى وجود توازن بين العاطفة، والعقل، عليك أن توظف قدراتك الواقعية، وحماسك بشكل يخدم هدفك؛ فلا يجب أن يعميك حماسك الزائد عن حسابات الواقع، أو يطغى إحباط الواقع على عزيمة الحلم.
ربما حالي يشبه حال كثيرين لم أكن طالباً متفوقاً في مراحل دراستي بالكلية، وكان هذا أحد الأسباب التي جعلتني أجتهد كثيرًا في هذا العام، وبعد ذلك، وقررت أن أذاكر من جديد، وأقرأ قدر استطاعتي في كل شيء، وهو بالتأكيد ما ساعدني لاحقًا.
الشيء الوحيد الذي كنت واثقًا منه أنني مولع بالجراحة، وجزء من هذا الحب ربما سببه خوفي من صعوبة المادة العلمية في تخصصات الأمراض الباطنية، فهي تحتاج إلى تراكم كبير من المعلومات، وهو ما كنت أفتقر إليه، لكن اكتشفت لاحقًا أن تقديري لهذا الأمر كان خاطئًا، فلم يفت الأوان بعد، ولا تزال الفرص كثيرة للتعلم، فطريقنا أطول من أيِّ طريق آخر.
وقفت للمرة الأولى في كشك الجراحة، وكان هناك حادث كبير، وبدون سابق إنذار وجدت نفسي بين عشرات الأشخاص في الغرفة، بالكاد أستطيع التقاط أنفاسي بعد أن استنشقوا كل الأكسجين الموجود بالغرفة، ضجيجٌ عالٍ، وصرخات استغاثة تطاير يمينًا، ويسارًا، ومن سوء حظي كنت الوحيد الواقف مرتديًا المعطف الأبيض في تلك اللحظة، وهناك مريض فاقد للوعي ملابسه ملطخة بالدماء.
كانت هذه تجربتي الأولى، ويومي الأول كطبيب عديم الخبرة في التعامل الاجتماعي مع ذوي المرضى، ومعلوماتي العملية لا تكاد تتخطى كشكول ٢٨ ورقة فقط، والتي قرأتها من كتاب لشرح كيفية التصرف في حالات الطوارئ، ولم أنهه بعد.
بدأ الغضب يعم المكان، وأنا أخفي خلف صمتي جبالاً من الجهل، وتتلاطم بداخلي أمواج التوتر، وبحر المسئولية يكاد يبتلعني.
أن تقف وحيدًا عاجزًا أمام مريض كما لو كنت واحدًا من الواقفين إنها أقسى لحظة يمكن أن يمر بها الطبيب حديث التخرج في حياته كلها.
من حسن حظي أسعفني نائب الجراحة العامة، والذي تعلمت منه كثيرًا في ذلك اليوم؛ حيث طلب من الممرضة تركيب عدد ٢ كانيولا على وجه السرعة، وقياس العلامات الحيوية، وسحب عينات التحاليل، وطلب عمل أشعة مقطعية على المخ، وأشعة سينية على الصدر…إلخ.
خرجت من هذا النفق المظلم، واستفقت من غيبوبتي فجأة لأجد أن المريض اختفى، واختفى كلَّ الواقفين، فقد أعطى الزميل أهل المريض بعض المهام البسيطة؛ لتشتيتهم كأنه يحملهم جزءًا من مسئولية إنقاذه، فطلب بذكاءٍ من هذا متابعة التحاليل، وطلب من ذاك متابعة الأشعة، وكلٌّ ذهب؛ ليؤدي مهتمه.
لاحظ الزميل علامات الحزن، والشعور بالندم الشديد على وجهي، فأتى إليَّ مبتسمًا، وربت على كتفي قائلاً:
– “ولا يهمك يا دكترة، كلنا كنا كده، متقلقش ده أول يوم لك، ولازم تفهم إنك امتياز، ومفيش عليك أي مسئولية لا قدام ربنا، ولا قدام حد، أنت نازل تدرب؛ عشان لما يبقى عليك مسئولية ميحصلش معاك اللي حصل ده”.
وجهت له سؤالاً أظن أن كلَّ الأطباء سألوه يومًا:
– “الواحد ندمان، ونفسه يعوض اللي فاته، هلحق؟”
ضحك الزميل قائلاً:
– “أنت عارف عشان تبقى استشاري ناقص لك كام سنة؟ أقلها خمس سنين نيابة، وخمسة أخصائي، ولسه الاستشارية ده درجات، ياما هتشوف، المهم إنك تتقبل فكرة إننا بنتعلم دايمًا، وتجتهد في اللي جاي”.
مرت السنوات ولا أزال أتذكر كلمات هذا الصديق المقرب، والذي تعلمت منه كثيرًا في حياتي، وكلما واجهتني الصعوبات، أو تعثرت في أي شيء أتذكر كلماته الناضجة، وتعامله الصادق، واللطيف مع من هم أصغر منه، لقد غيَّر كثيرًا من الأمور بداخلي، ونظرتي للحياة، والعمل، وكيفية التعامل مع الزملاء الجدد، وعلمتني كلماته أن الطبيب تلميذٌ دائم.
أعجبني تخصص الجراحة العامة، ثم أحببت جراحة المخ والأعصاب، وكنت ملهمًا بها ليل نهار، واجتهدت للغاية في هذا التخصص الجراحي الدقيق، وتعمقت فيه قدرًا ليس بقليل.
انتهت سنة الامتياز، وفي نهاية المطاف هداني الله إلى اختياري، وهنا يظهر بوضوح كيفية الحصول على فرصة جيدة، والتي تتمثل في أهمية تقليص عدد الاختيارات المتاحة، وإقصاء الاختيارات الأقل أهمية، أو غير الواقعية، والتغلب على العاطفة، في النهاية هناك الجزء الجراحي الذي أرغب فيه، وفرصة جيدة للتعلم في مستشفى بمحافظة نائية، وبعض الأسباب الشخصية الأخرى أيضاً وراء اختياري لتخصص النساء، والتوليد.
ما أود أن أقوله لك أخي/أختي العزيز/ة أعطِ نفسك فرصة لتعلم كل شيء، واترك نفسك مع التيار في هذا العام “التدريبي”، واعلم أننا قد نتعثر أحيانًا، وربما نسقط، لكن لا يوجد خيارٌ غير الوقوف من جديد، فلا تترك أحدًا يحبطك، أو يقلل من شأنك، أو من اختياراتك، أو من إمكانياتك العقلية، أو العلمية، فأنت خريج كلية الطب -أيًّا كان مجموعك- في النهاية أنت شخص مؤهل باستحقاق؛ لتكون طبيبًا، وعِش تجربتك، واستمتع بها، ومهما واجهت من صعابٍ تأكد أن الله لا يعطي الاختبار الصعب إلا لعبده القوي، وتذكر ما قاله أبو الطيب المتنبي “على قدر أهل العزم تأتي العزائم”، واجعل دعاءك الدائم “اللهم إن يدك سابقة، ولاحقة، ومحيطة بأيدينا تجري عليها أسباب الشفاء
.
اقرأ أيضًا:
البنك الأهلي المصري يوقع اتفاقية مع مكتب أبو ظبي للصادرات لفتح خط ائتمان بقيمة 100 مليون
بنك مصر 50مليون جنيه لدعم مشروعات التمكين الاقتصادي بقرى “حياة كريمة” في 7 محافظات
رئيس «الرقابة الصحية»: «الجودة» هي الفارق بين الخدمة الصحية المنظمة والعشوائية
البنك الزراعي المصري يطلق قرضاً جديداً للمساهمة في مصروفات التعليم لأبناء المزارعين
دكتور عُمر الشوربجي مدرس و استشاري المناظير الجراحية النسائيه و المشيمة الملتصقه
الدكتور محمد حسن زيتون استشاري امراض الباطنة والسكر ودهون الدم في حوار خاص للرأي العام المصري
القنصلية الايطاليه بالاسكندرية تحتفل بمئويه سيد درويش بشدو الفنانه لقاء سويدان
بنك القاهرة يواصل تحقيق أرقاماً قياسية في نتائج أعماله خلال النصف الأول من عام 2023