“يا بُني، أنا أمك الحنون، أنا الأرض الخصبة التي استقبلتك بعد تِيه، ملاذك الآمن بعد طردك من النعيم الأول وحتى تستعيد فردوسك المفقود. لم تكن ابني الأول، فكم من أبناء أنجبت طول عمري المديد. ولكنك كنت العاقلَ الرشيد الذي استخلفك الخالق؛ فاستبشرت خيراً بقدومك المُنتظر. وكأم عَطُوف، سَخّرت لك خيراتي؛ فأكلت وشربت ولبست، زرعت وصنعت وشيدت، حتى صرت أباهي بك الكواكب جيراني بأنني الأجمل والأبهى بينهم.
لكن، كيف تحولت من ابن بارّ إلى ابن عَاق؟ كيف هانت عليك أمك، وأنت فلذة كبدها وابنها البصير الحكيم؟ كيف تسير فتُقطع أوصالي وتعيث خراباً في أركاني؟ ألم تلوث مياهي وترابي وسمائي؟ ألم تشق باطني وتستنزف خيراتي وقد وهبتها لك بمقدار؟ ألم تدك قلاعي، وتُسيل دمائي بسلاحك الفتّاك؟ أرسلت لك الأعاصير فلم تَعتبر؛ غمرت مسكنك بالفيضان فلم تَهب؛ أطلقت عليك البراكين فلم تَرتع؛ زلزلت نفسي من تحت قدميك فلم تَخش أو تَجزع. استمرأت ضعفي وهواني أمام جبروتك المُقام حتى صرت عندك خِرقة بالية.
ولكن جبروتي يا بُني مستكن، وتَذللي أمام تَجبّرك وهم من صنع خيالك المستهين. لابد إذاً مما لا مفر منه: سأطلق فيروساً واهناً، ضعيفاً يَستعر فيك كالنار في الهشيم. وأرني حينئذ تبخترك، تَكبرك وتَجبرك. يومئذ سأرى تَذللك، تَخاشعك وتَصاغرك حتى يَعودَ إليّ ابني الشارد، الضال الهائم. وستكون بُرهة ألتقط فيها أنفاسي بعد عَبثكِ بمُقدراتي فصرت كالعجوز الرَثةً، المُهلهلةً. ستعود بحاري وأنهاري عذبةً من جديد، ستعود سمائي صافيةً من جديد، ستزدهر جبالي وودياني وسهولي من جديد، سأستعيد شبابي ورونقي من جديد.
هل أتخلى عنك يا بني وأنت فلذة كبدي؟ هل أَعرض عنك بعد أن خَذلتني؟ ستعود إليّ يوماً نادماً مستفغراً، ستعود إليّ يوماً تائباً مهتدياً، ستعود إليّ يوماً راجياً متمنياً. عندها، سألقاك بقلب الأم المحب الودود، سأتلقفك بقلب الأم الرحيم الرؤوف، سأضمك بقلب الأم الحنون العطوف. وعندها، “كلُُ سيكون على ما يرام، كل طبائع الأمور ستكون على ما يرام”.
فهيا، عد إليّ يا بُني، ستكون أمك في الانتظار”.
***