أنا الطب أتحدث إليكم!
أنا الطب أتحدث إليكم!
د. وسيم السيسي
متابعة عادل شلبى
لم يكن لى وجود فى العصور الغابرة لأن السّحَرة «جمع ساحر» كانوا يعالجون الناس بالتعاويذ، فلما كانوا يفشلون فى كثير من الحالات، بدأوا يفكرون فىَّ كعلم مستقل حتى تألقت فى الحضارة المصرية القديمة، مما دعا وارن داوسن إلى أن يقول فى كتابه Legacy Of Egypt: العلوم جميعًا، خاصة الطب، نشأت فى مصر منذ أكثر من خمسين قرنًا من الزمان!.
كانت كليات الطب اسمها بيوت الحياة، وكان الطبيب لا يتقاضى أجرًا من المريض لأن الدولة كانت تكفل له حياة كريمة، بل كانت هدايا المرضى للأطباء تَرِد لبيوت الحياة التى تخرجوا فيها، كما كان من حق المريض شكوى الطبيب إذا قصّر معه فى العلاج. بلغت شهرتى الآفاق حتى إن قورش، ملك فارس «إيران»، طلب أطباء من مصر لإجراء عملية مياه بيضاء «كاتاراكت»، وكان ذلك ٥٥٠ قبل الميلاد.
قرأ جورج برنارد شو البرديات الطبية المصرية، فكتب كتابه: «حيرة الطبيب»، ومؤداه أن مهنة الطب لا يمكن أن تتقدم إلا إذا وضعنا حائلًا وحاجزًا بين يد الطبيب وجيب المريض، على أن تكفل الدولة للطبيب راتبًا لحياة كريمة لأن الطبيب يجب ألّا يكون تاجرًا فى صحة البشر، ولأن الطبيب الجشِع أو الفقير أو اللاأخلاقى أشد خطورة على المجتمع من أى مجرم.
يذكر صاحب هذه المقالة أستاذه حليم جريس ومحاضرته: «طبقة قذرة من الأطباء!»، أولهم مَن يدّعِى أن المريض فى حاجة إلى عملية وهو ليس فى حاجة إليها، ثانيهم مَن يُحقِّر من شأن زميله أو يتهمه بالجهل أو إنه عمل حاجة غلط، وكلنا يذكر المريض الذى قتل طبيبه لأن زميله قال للمريض: الدكتور ضيّعك!!. واختتم أ. د. حليم جريس محاضرته بقوله: على الطبيب أن يكون درجة أولى فى الأخلاق، درجة أولى فى الضمير، درجة أولى فى المعرفة، درجة أولى فى السلوك.
مصر تعانى التصحر الطبى، أى هجرة الأطباء إلى الخارج.. ودون الدخول فى تفاصيل، هناك عوامل طرد من الداخل، وعوامل جذب من الخارج، وعلى المسؤولين دراسة هذه الأمور والعمل على علاجها.
الأطباء يحسون بعدم الأمان، فلم نسمع عن عقوبة رادعة لمَن اعتدى على طبيب أو غرفة عمليات ودمر ما فيها من أجهزة ثمينة. المرضى يشتكون من فئة قليلة جدًّا من الأطباء، ينصحون بعملية لا ضرورة لها، ويغالون فيما يطلبون.. هذه الفئة القليلة تسىء إلى الأطباء جميعًا وإلى المهنة العظيمة أيضًا، فمثلًا فى يوم واحد جاء مريض إلى صاحب هذه السطور «عدد الحيوانات طبيعى»، ولكنه يشكو ضعف حركة الحيوانات المنوية، والسبب التهاب البروستاتا، قال المريض: كنت فى المركز الفلانى، قالوا الحل الوحيد هو الحمل المجهرى!!.. فى نفس اليوم، سيدة، حصوة صغيرة ٣ ملليمترات فى نهاية الحالب تنزل بالعلاج، قال لها الطبيب: عملية!!، وما أكثر عمليات الدوالى المطلوب عملها دون سبب طبى يدعو إلى إجرائها!.
لذا أقترح على صاحب هذه الكلمات عمل جمعية باسم: جمعية الحفاظ على حقوق المرضى، مكونة من: أطباء، صيادلة، قضاة، كما أقترح على كل مريض أن يأخذ رأى أكثر من طبيب، خصوصًا فى العمليات.
أخيرًا، على المرضى أن يعرفوا الفرق بين المضاعفات التى يمكن أن تحدث بعد أى عملية أو حتى دواء، وبين الإهمال الجسيم، فالمضاعفات لا يحاسب القانون عليها، بينما الإهمال الجسيم عقوبته رادعة، كما يجب على المرضى أن يتأكدوا أن الجائزة الكبرى لأى طبيب هى شفاء المريض، وأن الطبيب قد يصيب، وقد يخطئ، ولكن يكفيه فخرًا وشرفًا أنه يصارع الموت كل يوم من أجل الإبقاء على الحياة.
قرر زميل كاتب هذه المقالة حين كان يعمل فى كمبردج بإنجلترا اعتزاله مهنة الطب لأنه قتل مريضًا بإعطائه حقنة بوتاسيوم كلوريد بدلًا من كالسيوم جلوكانات فى الوريد، فمات المريض فى الحال. التمس وكيل النيابة من الطبيب أن يتراجع عن قراره لأنه قضاء وقدَر، وستقوم شركة التأمين بدفع التعويض المطلوب!.