رأت مجلة “ذا ديبلومات”، المتخصصة في الشئون الآسيوية، أن محاولات نيودلهي للاحتفاظ بشراكتها مع كل من الغرب وروسيا تمر بنوع من الاختبار على ضوء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا؛ فقد نجحت الهند في الإبقاء على موقفها المُحياد من هذه الأزمة والذي يبدو أنه سيستمر على هذا المنوال في المستقبل رغم التحديات التي تمخضت عن هذه العملية العسكرية الروسية.
وأشارت المجلة إلى أن إحدى هذه التحديات تمثل في حتمية اتخاذ موقف دبلوماسي من هذه الأزمة، فحتى هذه اللحظة تلتزم الهند الحياد حيث لم تؤيد القرارات الأممية التي أدانت روسيا؛ مما تسبب توجيه انتقادات غربية لها، أما ثاني هذه التحديات فكان الحاجة إلى إجلاء الآلاف من مواطني الهند من أوكرانيا، وعليه لم تجد الهند بدا من توجيه نداء للجانبين بالتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار حتى يتسنى لها إجلاء رعاياها بسلام.
وجنت الهند، حتى الآن، فائدة كبرى من الموقف برمته حيث استغلت الفرصة لشراء النفط الخام الروسي بتخفيضات سعرية غير مسبوقة وبدأت في استيراده بكميات كبيرة للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين الدولتين.
ومع ذلك، فهناك جانب سلبي ربما استشعرته نيودلهي، فبعض التقارير تشير إلى أن الهند، التي تستخدم الأسلحة والمعدات الروسية وتعتمد على موسكو بشكل كبير، قد تواجه تأخيرات في إرسال شحنات الأسلحة من موسكو، بحسب مجلة “ذا ديبلومات”.
وفي الوقت نفسه، قررت نيودلهي، في مارس الماضي، حظر واردات بعض المنتجات العسكرية، لكن السؤال يدور حول ما إذا كان قرار الهند خاطئا على ضوء موقف روسيا واعتماد الهند على واردات الأسلحة من موسكو.
فعلى سبيل المثال، كشفت البحرية الهندية مؤخرا عن إنتاج أول حاملة طائرات محلية الصنع، وهي “آي.إن.إس فيكرانت” INS Vikrant، إلا أن عمل حاملة الطائرات هذه تأثر لبعض الوقت بتأخر واردات الأسلحة، حيث أوضح ضابط البحرية الهندية السابق والمحلل العسكري آبهيجيت سينج، في سبتمبر الماضي في نشرة “مؤسسة أوبزرفر للأبحاث” الهندية غير الربحية، أن معدات حاملة الطائرات التي تأتي من روسيا، وتحديدا وحدات متابعة وإدارة طائرات الحاملة أثناء تحليقها في الجو، لم تدخل الخدمة بالكامل جراء العقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا بسبب العملية العسكرية في أوكرانيا.
وأكدت عدة مصادر أن تسليم الدفعة المقبلة من منظومة الدفاع الجوي الروسي “إس-400” قد تأجل هو الآخر، بحسب “ذا ديبلومات”.. ومن جانب آخر، من المحتمل أن يتسبب الغزو الروسي لأوكرانيا في انحراف المشروعات الأمنية التي تعتمد على التعاون الهندي مع أوكرانيا عن مسارها أو تأجيلها بالكلية، فنيودلهي تستورد أيضا منتجات عسكرية من كييف.
وحتى لو لم يتم تأكيد تلك الأخبار، فمن المحتمل أن تقع هذه التأخيرات في المستقبل القريب.. وبالرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها الهند في الاعتماد على ذاتها بشكل مستقل، إلا أنها في الوقت الحالي مازالت تعتمد على روسيا لسببين؛ أولهما أنه في الوقت الذي تركز فيه موسكو على غزوها الجامح والخاطئ لأوكرانيا، فإن التصنيع العسكري الروسي يوجه طاقته لتسليم المعدات الضرورية لقواته المسلحة كأولوية قصوى.
أما السبب الثاني، فهو أنه كنتيجة لهذه الحرب، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع شركائها الغربيين والآسيويين بحرمان روسيا من تسلم أشباه الموصلات المتقدمة المستخدمة في الأسلحة الروسية.. وفي هذا الصدد، أوضح المحلل العسكري الهندي آبهيجيت سينج أن هذا الأمر سيكون له تأثيره على الهند أيضا، وعلى الأغلب، يتعلق ذلك بأي معدات عسكرية روسية حديثة وقعت الهند عقودا بشأنها مع موسكو وتتطلب أشباه الموصلات التي ينتجها الغرب أو تايوان وسنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان، وجميعهم شاركوا في العقوبات المفروضة على روسيا.
وفي ظل ضبابية النتائج المستقبلية لهذه الحرب، رأت مجلة “ذا ديبلومات” أنه يمكن القول بأنه كلما زاد مخزون روسيا من أشباه الموصلات المتقدمة تلك، كان ذلك أفضل لصناعتها، لكن في مواجهة ذلك العجز في المعدات قد تضطر موسكو للاختيار بين شحن المنتجات العسكرية المتعاقد عليها إلى الهند أو توفيرها لقواتها المسلحة.
وكلما عززت روسيا من مخزونها الحالي وزادت من إنتاجها، ستتمكن بكل تأكيد من توفير تسليح قواتها بشكل فوري علاوة على وفائها بما تعهدت به من واردات إلى الهند، أما في حال اتسعت هوة العجز الروسي، فمن المحتمل أن تستمر العقوبات الغربية لفترة أطول، مما يطيل بالتالي أمد الحرب ويتسبب في مزيد من التأخيرات للشحنات التي تنتظرها الهند.
والأكثر من ذلك أن هذا الأمر من شأنه في مرحلة ما أن يكون له تداعياته السلبية على العلاقات الهندية الروسية، وفي هذه الحالة سيتضح بشكل جليّ لموسكو مدى الخطأ في العملية العسكرية على أوكرانيا.
وذكرت “ذا ديبلومات” أن هذا الأمر يبدو ليس له علاقة بقرار نيودلهي الأخير بحظر الاستيراد أو على الأقل بالنوايا الحقيقية للحكومة الهندية فيما يتعلق بهذا الحظر، فالهدف النهائي طويل الأجل للهند هو قدرتها على إنتاج معدات عسكرية مهمة بقدر الإمكان، ولتحقيق هذا الهدف تعمل الحكومة على إعطاء دفعة لصناعتها من جانب وتقليل الواردات من الدول الأخرى من جانب آخر في ظل الواقع الحالي الذي يؤكد بأن الهند هي واحدة من أكبر الدول المستوردة للسلاح على مستوى العالم.
وأضافت وهذا بطبيعة الحال أن الهند لا تسعى لتقليل الواردات من روسيا فقط، بل من كل المصادر الخارجية، لاسيما وأن تداعيات غزو أوكرانيا قد عززت من حتمية القيام بتلك الخطوة بعد أن ظل تقليل هذا الاعتماد الكبير على الغير موضع نقاش لعقود.. وبالفعل، قامت الهند بإعلان خطة في اتجاه تحقيق هذا الهدف في عام 2020، وذلك في شكل حملة أطلقت عليها اسم “مهمة اعتماد الهند على ذاتها” وحددت هدفها الطموح بجعل الهند مستقلة بالكامل ليس فقط فيما يتعلق بمجال الصناعات الدفاعية وإحدى أدوات هذه الحملة كان القرار بحظر واردات المعدات العسكرية.. ومن المخطط لهذه الحملة أن تكون بصورة مرحلية، وتتضمن ثلاثة درجات من الحظر، وكل منها يغطي قائمة طويلة من المنتجات.
وتابعت المجلة أنه “قد لا يبدو هذا الحظر حاسما كما يظهر للوهلة الأولى، فهو يغطي في أغلبه ما تنتجه الصناعات الدفاعية الهندية بالفعل أو ما تفترض قدرتها على إنتاجه على المدى المتوسط، وعليه يُعتبر الحظر بمثابة خارطة طريق فهو يُظهر أي المجالات وأي المراحل التي يمكن فيها للحكومة الهندية أن تفترض قدرة صناعتها الدفاعية على الاعتماد على ذاتها خلال السنوات القادمة”.
ولفتت إلى أنه في واقع الحال يُعد هذا الحظر مفروض ذاتيا، حيث تتكون الغالبية العظمى من الصناعات الدفاعية الهندية من شركات عامة وليست خاصة، ولذلك تحظر الحكومة واردات على شركاتها التي تقع تحت سيطرتها، وفي حال العجز عن بناء القدرات بشكل ناجح في مرحلة ما، كما هو الوضع حاليا، فقد تلجأ الحكومة لرفع هذا الحظر.
وبقراءة سريعة لقوائم المنتجات المحظور استيرادها، يظهر أن الكثير منها لا يمثل قدرا كبيرا من الأهمية، حيث تشمل الدبابات وطائرات الهليكوبتر الخفيفة ومعظم تلك المنتجات هي مكونات أو أنظمة دفاعية فرعية يتم استيرادها للاستخدام داخل برامج معينة، وعلى أية حال لن تقرر الهند فجأة حظر استيراد الطائرات متعددة الأدوار لتيقنها أنه من المحال أن تبدأ في إنتاجها محليا في وقت قصير.
وأشارت المجلة إلى أنه صحيح أن نيودلهي بدأت تطبيق حظر استيراد المنتجات العسكرية الروسية وغير الروسية، في الوقت نفسه الذي تواجه فيه تأخيرات لتسليم منتجات متعاقد عليها مع روسيا، ومع ذلك فليس من المحتمل أن تتداخل قوائم المنتجات العسكرية هذه كثيرا، ولكن النظم الحاسمة التي تعاقدت عليها الهند مع روسيا، مثل منظومة الدفاع الجوي الروسية “إس-400″، قد تواجه تأجيلا من الجانب الروسي ولن يتم إلغاؤها من جانب نيودلهي.
أما المخاطرة التي تكمن للهند، فتشير المجلة إلى أنها تتلخص في سوء التقديرات أو بمعنى آخر افتراض نيودلهي بأن صناعاتها الدفاعية ستكون قادرة على إنتاج بعض المعدات في المستقبل القريب، وهو ما قد يمثل خطأ جسيما، وفي هذه الحالة سترفع الهند الحظر.
واختتمت “ذا ديبلومات” بالقول “إن الحظر الهندي على الاستيراد قد لا يكون في نهاية المطاف قرارا خاطئا، خاصة وأنه يمكن الرجوع عنه في كل حالة على حدة.. لكن، في الوقت نفسه، قد تمثل تأخيرات تسليم المعدات العسكرية من روسيا تحديا للهند بغض النظر عما تفعله الأخيرة”.