الخطاب الدينى وغلق المساجد
كتب _ على امبابى
من اثار فيروس كورونا هو اعادة اكتشاف البشر لحقيقة بيوت الله بداخل انفسهم، وبداية وعي ديني روحي جديد .
ارتبط تفعيل الدين علي مر العصور في وجدان البشر بمكان العبادة، وكان الوقت المقضي بداخله (بصفة اساسية جمعة/سبت/أحد) مقتطعا من زمن زائره فيقضي فيه الفريضة، مستحضرا معني الامن والايمان، مستلهما المراجعة والصواب، مستمعا لما يرقق قلبه ويفتح روحه، متشربا جرعة من السكينة والهدوء وسائلا الحماية الربانية ان تعينه على الدنيا.
فيتعمق لاوعي الزائر بقيمة ومعنى المكان في وصله وصلته واتصاله بمصدر القوة الحقيقي .. الله.
تدريجيا تمددت دائرة (شكل وطقوس وخصوصية) مكان العبادة، لتشمل حاملي رسالته ومعناه، لتنشأ دولة الخطاب الديني، من اصفي معانيه الي اكثرها تطرفا.
وتمدد تاريخيا، شكل ونطاق الخطاب الاساسي من الخطبة والموعظة والدرس، ليخرج من مكان وزمن العبادة، ليغزو سمع وبصر البشر في زمنهم اليومي، بوسائط ايسر وصولا لحواسهم، فكان الورق والاثير والفضاء (مقروء، سمعي/سمعي بصري)،
تدريجيا ايضا، ادي تضافر مكان العبادة بدولة الخطاب الديني، ليكونا شلالا معنويا يغسل ادران البشر الروحية والعقلية على مدار الاسبوع! ليمضوا للدنيا بعد خروجهم، آمنين عودتهم الاسبوع التالي لتطهير جديد. خلال ذلك لم/لا يمتنع البشر عن فسادهم او مفاسدهم او اخطاءهم .
فأبدية وجود الشلال تضمن لهم أبدية الغسيل والتطهير، بدون مواجهة حقيقية بينهم وبين مصدر القوة الحقيقي .. الله!
ببساطة تحول الشلال ـ ببراءة أحيانا وغير ذلك أحيانا اكثر ـ الي منهجية مقننة، موثقة، آمنة تضمن للبشر غسيلا وتطهيرا مستمرا، بشكلية دينية حديثة مهيمنة، تعفيهم من فهم دقائق وروح العقيدة .
على مر التاريخ، يحاول البشر وزن حياتهم بين كفة زخرف الدنيا وبين كفة الشكلية الدينية، في محاولات اتزان دائم على قاعدة النظام الديني ومنتجاته، لتكون رمانة ميزان العديد منهم، الوقوف عند شكلية الميزان دون تجاوزه الي معني العدل ذاته!
أدى ذلك الي سحب تدريجي تراكمي، لوعي البشر بامكانية ان يكون مكان العبادة ومناجتنا مع الخالق بداخلنا، او ان نغلق عيوننا لتري سماوات رحمته! وهو ما اثمر ارتباطا مرضيا ـ ماديا/معنويا ـ بيننا وبين هذه الشكلية الدينية، وانحصار وانحسار وعينا الحقيقي والاصلي والصافي بالله، فيما تزودنا به هذه الشكلية او نراه فيها او بمنظورها او نعاينه من رسلها او نحلق معه في منتجاتهم.
استمر الوضع آمنا حتى مارس ٢٠٢٠ وصدور قرارات عالمية بغلق اماكن العبادة بسبب فيروس كورونا وحظر التجمعات والانشطة الجماعية. لاول مرة في التاريخ، يُحدث عنصر واحد ـ كورونا ـ تأثيرا عالميا في ذات الوقت وعموم المكان ويلتزم البشر بيوتهم كوسيلة مضمونة للنجاة، لتكون اول مواجهة حقيقية بين البشر وبين فكرة ومعني الله بداخلهم علي مدار الساعة.
فغلق مصدر الشكلية الدينية وتوقف الشلال الاسبوعي، كشف للبشر حتمية مواجهة الله في حق وجوده بداخلهم، واعادة اكتشافه بداخلنا .لاعادة اعتبار وتأهيل ارواحنا وعقولنا، كأكمل جهاز ارسال واستقبال خلقه الله، لاطلاق النية بسهم الدعاء واستقبال المدد بلا حساب (وما كان عطاء ربك محظورا).
(من كان يعبد محمدا، فان محمد قد مات، ومن كان يعبد الله، فالله حي لا يموت) عبارة كسر بها الصديق ابا بكر رضي الله عنه، اشكالية ربط العقيدة الاسلامية بشخص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند وفاته، ليتحرر العقل والقلب المسلم ـ وقتها ـ من شكلية اتباع الرسول لدرجة التقديس، الي الايمان بالله مجردا لدرجة اليقين.
كانت هذه العبارة الماسية هي النقلة الموضوعية والتصحيحية لوعي المسلمين، في فهم علاقة قضية الايمان بالشكلية الدينية بمعناها الصحيح، وهي الشكلية التي التزم بها الرسول ذاته . كاول رمز للشكلية الدينية ـ
ومن هنا استمر ونما الوعي المحمدي في المسلمين، لتتحول قلوبهم لمساجد يذكرون الله فيها لحظيا، فيكون التزامهم بقواعد العقيدة والشريعة والمعاملات هو صراطهم الدنيوي الذي يتدربون عليه في مسجدهم الداخلي! ليصبح اجتماعهم ماديا بالمسجد، تجميعا للطاقة الايجابية السارية طوال الاسبوع او ما بين الصلوات الخمس.
ان غلق اماكن العبادة بسبب فيروس كورونا، هو نوع من اللطف الالهي بعباده لاعادة التعرف عليه بداخلهم بأدب! وكسر للشكلية الدينية الحالية التي اتكل عليها البشر في علاقتهم بالله، ومنحهم فرصة ـ اجبارية/اختيارية ـ لاستعادة الوقت والتفكير والتدبر والتأدب، كمخلوق يحتاج اللجؤ لخالقه بنفسه اولا .
غاص البشر قبل مارس ٢٠٢٠، في زخم وزخرف الدنيا كاملا، مع شكلية دينية شكلت وقولبت وعيهم ولاوعيهم بالله حتي هذا التاريخ، ليبدأ مع غلق اماكن العبادة ـ موقتا باذنه تعالي ـ عهدا جديدا لمن وعي ورغب في فتحا تدريجيا لعيونهم على داخلهم، ليكون قرارهم في بيوتهم تهدئة لصخب حركتهم وسعيهم وطموحهم واطماعهم وشبقهم واخطاءهم، فيسحب منهم مخدر الدنيا تدريجيا، لتبدأ في الظهور عادات ايجابية جديدة، بنفوس أهدأ وأكثر هداية،
لتأتي ساعة الافاقة عند انتهاء الدرس وعودة فتح اماكن العبادة ومعاودة سنة الحياة في السعي في مناكبها، فيكونون مؤهلين بروح جديدة عرفت معها طريق المحراب الداخلي.
لا يوجد ضمانة لاتعاظ البشر من المحنة بعد زوالها، واغلبهم سينطلق للدنيا جائعا، ناهلا من كل المحرومات، معاودا سيرته الاولي واكثر .
قلة ممن سيعون الدرس ويستنون سننا جديدة بعد العثور والوصول إلى محرابهم الجديد .
نحن الان في مرحلة اغتنام هدوء الصخب، تصفية الكدر، تهيئة الوعي، اطلاق التعلم، شراب المُعلم، تأهيلا لبداية حقيقية تتجمع فيها طاقتنا الايجابية المنيرة معا، باماكن عبادتنا الحبيبة، ليبدأ رسلها عهدا جديدا يعيد للخطاب الديني صفائه، وليس استثماره لتواكلنا على شكلية دينية تكفلت بغسل ادمان اخطائنا، بفوائد باهظة.