مرض العصر
بقلم أ. ولاء خالد
ارتبطت التخمة على مر العصور بكثرة تناول الطعام، وزيادة الوزن، وأحياناً يتطور الأمر بتأثر جودة حياة الإنسان، وقدرته على الحركة بشكل طبيعي، وكانت الوجبات السريعة، وحياة الخمول أهم أسباب التخمة في عصرنا الحديث، فأغلب الأعمال أصبحت مكتبية، ولم تعد الحركة جزءاً أساسياً من معادلة العمل، وساهم إدخال الآلات في حياة الإنسان بوجه عام، وفي مجالات العمل المختلفة بوجه خاص في قلة الجهد البدني منذ بداية الثورة الصناعية، فأصبح الخمول سمة العصر، والتخمة مرضه.
مما لا شك فيه أن القوة البدنية للبشر أصبحت أقل بكثير في عصر الأزرار عما كانت عليه في عصور الأوزار، على الرغم من أن ما وصلنا إليه من تطورٍ ذهني، وعلمي في أغلب المجالات يفوق ما وصل إليه أسلافنا إلا أن وتيرة تطورنا لم تعد بالتسارع ذاته، قد يرجع ذلك إلى حالة الرضا مما وصلنا إليه، لكن الحكمة -التي نعرفها جميعاً- تقول “العقل السليم في الجسم السليم”، وترتبط صحة العقل ارتباطاً وثيقاً بصحة الجسد، فالجسم الخامل يتسلل الخمول إلى عقل صاحبه.
عزيزي القارئ، بكل تأكيد لم أكتب مقالي لأتحدث عن مخاطر زيادة الوزن، أو “كيف تخسر خمسة كيلوجرامات في أسبوع واحد فقط؟”، فمتخصصو التغذية كُثُر، والمقاطع المصورة على يوتيوب أكثر، وأكثر، ولا أظن أننا بحاجة لنقاش مثل هذا الأمر الآن، فالكلمة في عصرنا أصبحت طيِّعةً مرنة تحمل عدة معانٍ، فعلى سبيل المثال مقال اليوم اسمه التخمة، ولا يرتبط بزيادة الوزن…
في الماضي كانت الأخبار تحتاج إلى أيام، وربما شهور لتصل إلى مُتَلقيها، وكانت بعض وسائل نقل الأخبار كالبشر بطيئة، والبعض الآخر أسرع كالعربات التي تجرها الخيول، والحمام الزاجل، وكان المتلقي يحتاج إلى وقت كافٍ أيضاً؛ ليستوعب، ويتفاعل مع الخبر.
كانت طرق البحث عن حلول المشاكل في مجالات العمل المختلفة تحتاج إلى التفكير الذي قد يستغرق أياماً، وقد يصل الأمر إلى سنوات، أما طرق البحث العلمي في السابق فكانت تحتاج إلى وقت أطول بكثير مما هي عليه الآن، فكان الباحث يحتاج إلى قراءة كتب كاملة، ويحتاج إلى وقتٍ أطول من التجارب؛ ليتمكن من الوصول إلى حل المشكلة، أو علاج مرض ما…إلخ، ولا يعني هذا بالضرورة أن هذا أمرٌ جيد، لكن سأناقش الهدف من هذا المثال في السطور اللاحقة من المقال.
تطور الإنسان بمرور الزمان، وتعالت أصوات الآلات شيئاً، فشيئاً في ثورة صناعية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل، فامتلك الإنسان آليات أسرع كالسيارات، والقطارات، والطائرات، والهواتف…إلخ، بعد أن كان الاعتماد الأكبر في التواصل، والتعلم على الأوراق، وبعد أن كانت رسالة المصري تحتاج من أسبوعين إلى شهر للوصول إلى أحد أقاربه في أوروبا، انتشرت الهواتف المنزلية، أصبح المتصل يحتاج إلى بضع دقائق؛ حتى يوفر موظف السنترال خطاً غير مشغول يربط به جهتي الاتصال، وكان ذلك بمثابة ثورة علمية اختصرت الكثير، والكثير من الوقت، وأصبح من السهل معرفة الأخبار، والتفاعل معها بشكل أسرع مقارنةً بالماضي.
اليوم أصبح الخبر بين أيدينا، وفي جيب كلٍّ منا، ولم يعد يفصل بيننا، وبين الخبر سوى ضغطة زر واحدة، “يا له من أمرٍ رائع، والأكثر روعة أننا نتفاعل معه بالسرعة ذاتها”…
بل يا لها من كارثة! ما هذا الكم الهائل من المعلومات التي تستقبلها عقولنا!؟
هل كل هذه المعلومات يتوجب علينا معرفتها في آن واحد؟ وهل كل هذه الأخبار ذات قيمة أم أنها تشغل حيزاً كبيراً من عقل مُستَقبلها؟ وهل عقولنا مُهَيئة لاستيعاب كل هذا الكم الهائل من الأخبار والمعلومات؟
تتطاير الأخبار يميناً، ويساراً في حيزٍ صغيرٍ، فأصبحت أخبار الدقيقة الواحدة تعادل أخبار سنواتٍ، فانتفخت العقول حتى أصبحت خاملةً كأبدان أصحابها.
ارتبط تعريف التخمة بالزيادة المفرطة، وامتلأت العقول بما لا ينفع، أكثر مما ينفع، فأصيبت بتخمة معلوماتية، ولم يعد الإنسان قادراً على التفكير، والتطور بذات الوتيرة كالعصور السابقة، وبدأ منحنى سرعة التطور في البلوغ إلى مرحلة الاستقرار، أو كما يطلق عليها في الكتب العلمية “Plateau”، وهو ما يعني أن تطورنا في مجال الطب على سبيل المثال في العقد السابق أقل في الوتيرة بكثير عنه في التسعينيات، ولأكون صادقاً هذا الأمر لا يقتصر على تخمة العقول فحسب -هناك قلة تمويل البحث العلمي…إلخ من الأسباب الأخرى- لكنها تمثل الجزء الأهم في المعادلة، فطموح الإنسان، وسعيه للبحث عن كل ما هو غامض لحل المشاكل التي تواجهه هو الأساس الذي يقوم عليه التطور.
لم يعد الإنسان يرهق نفسه في التفكير كسابق عهده، فتخلى عن عقله، واعتمد اعتماداً كلياً على الآلات، فكيف لعقله التائه المشتت بين كل هذا الزحام، والمشغول بتنظيم كل هذه الفوضى أن يفكر في عملية جمع رقمين دون استخدام الآلة الحاسبة؟ أليس هذا مثال حي نفعله كل يومٍ دون أن نشعر؟
أصبحت وتيرة الحياة أسرع مئات الأضعاف عن الماضي، ولم يعد العقل يستوعب عبور الطريق، وزحام السيارات، وأخبار الصحف، ومشاهدة التلفاز، وسماع عشرات الأغاني المحملة على الهاتف، ومنشورات مواقع التواصل الاجتماعي التي تتطاير يميناً، ويساراً، والأهم توفير المسكن، والمأكل، والملبس، وأساسيات الحياة التي تداخلت مع أمورٍ ثانوية أصبحت بدورها هي الأخرى أساسية بسبب اعتيادها، ولا يعني ذلك أنني ضد ذلك كله، إنما يتوجب علينا تنظيم تلك الفوضى بحيث تتلقى عقولنا ما نحتاجه من المعلومات الهامة؛ لتسيير حياتنا ، وأعمالنا كما هو مفترض أن يكون.
إن المرض الأخطر في عصرنا الحديث لا يكمن في الأبدان، إنما في العقول، وأصبح من الضروري على الإنسان التخلي عن فكرة تطور الآلة الحتمي في كل شيء، ويحد من استخدامها على حل ما لا يستطيعه فقط، ويعيد صياغة المصطلح إلى معناه الصحيح، وهو تطور العقل قبل أن يضغط الإنسان على زر التدمير الذاتي لكل المعاني الحضارية، والإنسانية، فيكون هذا هو الزر الأخير في عصر الأزرار.
يمكنك مراجعة المقال المُكَمِل لهذا المقال “للخلف در!” | بقلم زوجي د. أحمد الوحش بتاريخ ١٣ فيراير ٢٠٢١ على موقع جريدة الرأي العام المصري؛ حيث يناقش فيه التبعات الخطيرة لتطور الآلة في المستقبل.
اقرأ أيضًا:
طارق الشناوي: قائمة الأجور مفبركة والقوائم موجودة منذ زمن ولها منطق
شيرين عبدالوهاب تتقدم ببلاغ ضد شخص استولى على قنواتها وصفحاتها الرسمية
تحذير عاجل من الأرصاد: مرتفع جوي يضرب البلاد.. وأتربة ورمال مثارة على جميع الأنحاء
التجمع يناقش مقترح مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد ببني سويف
الصحة: تفعيل خدمة الإقلاع عن التدخين في 14 عيادة بمستشفيات أمانة الصحة النفسية
وزير الرياضة يهنىء منتخب مصر بالفوز بكأس إفريقيا للبومزا برواندا
منطقة الإسكندرية الأزهرية تعلن فتح باب التظلمات على نتيجة الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية
البنك الأهلي المصري يوقع اتفاقية مع مكتب أبو ظبي للصادرات لفتح خط ائتمان بقيمة 100 مليون دولار لتنمية الصادرات الإماراتية
نقدم لكم من خلال موقع (الرأى العام المصرى )، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.