القلم والمشرط: “حين يتنفس الموت”

القلم والمشرط: “حين يتنفس الموت”
بقلم د. أحمد الوحش

منذ فجر التاريخ لم تكن الحروب وحدها أداة لتغيير العالم، بل كان لها في أحيان كثيرة رفيق خفي يسبقها، أو يرافقها، أو يَخلُفها كظلٍ ثقيلٍ.
من يتتبع خيوط التاريخ يلحظ ظاهرة غريبة متكرر… جوائح تضرب، ثم دول تترنح، ثم صراعات تشتعل.
فهل هو قدرٌ محتوم؟ أم أن الإنسان حين يخرج من معركةٍ مثقلاً بالهزيمة يبحث عن معركةٍ أخرى ليثبت أنه ما زال حيًّا وقادرًا !؟
في القرن السادس حين اجتاح طاعون جستنيان العاصمة البيزنطية لم يكن المرض سببًا للانهيار الفعلي، إنما نتائجه؛ حيث غادر تاركًا اقتصادٍ متداعٍ، وجيشٍ واهنٍ، وشعبٍ مرهقٍ.
فجأة! تحوَّلت إحدى أعظم الامبراطوريات في التاريخ إلى هشيمٍ ينتظر أول ريحٍ تأتيه من الشرق، أو الغرب؛ لتهدم أعمدته، وتقتلع جذوره التي امتدت لقرون.
هكذا مهد الوباء الطريق لتغيرات عسكرية، وجيوسياسية كبرى لم تكن ممكنة في أزمنة سابقة.
بعد ثمانية قرون تقريبًا حلَّ الطاعون الأسود (١٣٤٧م – ١٣٥١م) كعاصفة اجتاحت أوروبا، فأسفرت عن ملايين القتلى، لم يتركوا فراغًا في البيوت فقط، بل في الحقول، والورش، والثكنات، والخزائن أيضًا.
انكسرت قبضة الإقطاع، وارتفعت أجور العمال، وتحوَّل الغضب الاجتماعي إلى تمرد، وعلى عكس المتوقع لم ينهي الوباء حرب المئة عام (١٣٣٧م – ١٤٥٣م)، بل غيَّر قواعدها، فاستُبدِلَت المدافع بالفرسان، وزادت أعداد المرتزقة، وظهرت لأول مرة فكرة الجيش النظامي الدائم، لقد لعب الطاعون دور المهندس الخفي لتلك الحرب الطويلة، فتغيرت موازين القوى، وخريطة النفوذ في أوروبا.
أثناء غزو العالم الجديد (الأمريكتين) في القرن السادس عشر لم يكن الإسبان بحاجة إلى أسلحة كثيرة لإسقاط إمبراطوريات الأزتك، والإنكا، فالأوبئة -التي حملوها معهم كالجدري والحصبة- قتلت مئات الآلاف من السكان الأصليين الذي لم يعهدوا هذه الأمراض من قبل مما أدى إلى تراجع كارثي في أعدادهم، وضعف جماعي، وتحطم البنية السكانية، والمجتمعية، وعدم القدرة على المقاومة، فتسبب ذلك في إنهيار امبراطورية الأزتك في أغسطس ١٥٢١م بعد حصارها من قبل الإسبان وحلفائهم.
لم تكن الحرب هنا صراعًا بمفهومها التقليدي بقدر ما كانت غزوًا بيولوجيًا غير مقصودٍ، غيَّر مصير قارتين بأكملهما.
على خلاف النهاية السعيدة في رواية “الحب في زمن الكوليرا”؛ حيث رفع فلورنتينو، وفيرمينا الراية الصفراء على سفينتهم -إشارة إلى الحجر الصحي حتى لا يصعد أحد على متنها- معلنين انتصار حبهما على الزمن، والمرض، والموت؛ ليصبح خالدًا مثل نهر الماغدالينا الذي لا يتوقف عن الجريان…
إلا أن واقع العالم خارج سفينتهما كان مغايرًا للنهاية السعيدة، ولم يرمز النهر لخلود الحب، بل حملت مياهه الوباء إلى البطون، فأصبح مصدر الحياة بؤرةً للمرض.
واجتاحت الكوليرا مدن العالم من أقاصي الشرق إلى الغرب، ولم تكن الجائحة مجرد أرقام في دفاتر الصحة، بل أداة في يد المستعمر الأوروبي الذي استغل فوضى الوباء الجديد لفرض مزيد من الهيمنة بينما تتزايد نقمة الشعوب على حكوماتها العاجزة بعد ست موجات من الوباء.
في نهايات القرن التاسع عشر تزاوجت الأوبئة مع النزعات القومية، وصراعات السيطرة؛ لتلد لنا قرنًا مشتعلًا بالثورات، والحروب الكبرى, ويدخل العالم في فصل جديد عنوانه “من الكوليرا إلى المدافع”.
بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وأُخمِدَت نيران جبهاتها، فُتِحَت جبهة جديدة في رئات البشر، فالإنفلونزا الإسبانية قتلت أكثر مما قتلت المدافع؛ حيث وصلت التقديرات من ٥٠ إلى ١٠٠ مليون إنسان، فوجدت أوروبا -التي خرجت للتو من حرب الخنادق- نفسها في حربٍ أخرى مع عدوٍ غير مرئي، فتضاعفت المآسي، وتعمّق الانهيار الاقتصادي، والاجتماعي.
هذه الأرض اليباب المثقلة بالأرامل، والأيتام، والبطالة، والفقر كانت بيئةً مثاليةً لولادة النازية، والفاشية بعد عقدين فقط؛ لتنفجر حربًا ثانيةً أكثر شراسة على أنقاض هذه الجائحة.
منذ بضع سنوات اجتاح فيروس كورونا العالم، وتسبب في فوضى عارمة، وتضخم اقتصادي، واضطراب في سلاسل الإمداد مما تسبب في إرتفاع أسعار الطاقة، والغذاء، وارتفاع نسبة البطالة، والفقر.
ربما لم يكن وباء القرن الحادي والعشرين سببًا مباشراً في صراعٍ شاملٍ، لكنه أزاح الستار عن هشاشة النظام العالمي، وضعف اقتصادات الدول، فانطلقت شرارات توتر بين القوى الكبرى منها الحرب الروسية الأوكرانية التي استغل فيها الروس -على الرغم من تأثرهم الشديد- الانشغال العالمي، والضعف السياسي، والاقتصادي للدول، فكشفت الأزمة عن تصدعات كبيرة قد تتحوَّل في المستقبل إلى مواجهات أكثر خطورة، ولا يزال العالم يعاني إلى الآن من نتائجها الكارثية.
ربما أطلقت كورونا كغيرها من الجوائح شرارة لحربٍ كبرى قد تحدث خلال العقد القادم نلمس بوادرها، ومؤشراتها، فالعالم قبل ٢٠١٩م يختلف كثيرًا عن العالم الآن.
قارئي العزيز، إذا تتبعنا كل هذه الخيوط التاريخية سنصل إلى أن الأوبئة لا تخلق الحروب من العدم، بل تضغط على موارد الدول، فتكشف مكامن الضعف، وتفتح شهية الطامعين.
إن الجوائح ترهق الاقتصاد، وتبدل التوازن السكاني، وتبدد الموارد، وتضعف الثقة، وتترك شعوبًا متعبة، وأحيانًا يصبح المرض نفسه أداةً في يد ساسةٍ يبحثون عن نصر خارجي لمداواة هزيمة داخلية، هكذا تتحول الأوبئة من أزمات صحية إلى محفزٍ لصراعاتٍ تنتظر فقط الشرارة…
حين نقرأ التاريخ بعيونٍ يقظةٍ نفهم أن المرض ليس مجرد فصل عابر بين حربين، بل جسر يعبره العالم من سلامٍ هش إلى صراعٍ مدمرٍ.
هنا يطرح السؤال نفسه “بعد كل جائحة جديدة هل نتعلم كيف نرمم الجسر؟ أم نتركه يتصدع حتى نسمع من جديد وقع طبول الحرب!؟
نقدم لكم من خلال موقع (الرأى العام المصرى )، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.
لمتابعة صفحة الرأى العام المصرى على فيس بوك اضغط هنا
لمتابعة صفحة الرأى العام المصرى نيوز على فيس بوك اضغط هنا
لمتابعة صفحة قناة نيو دريم على فيس بوك اضغط هنا
لمتابعة الرأى العام المصرى على الانستجرام اضغط هنا
لمتابعة الرأى العام المصرى على الواتساب اضغط هنا
لمتابعة الرأى العام المصرى على التليجرام اضغط هنا









