يوسف المقوسي يكتب: الإنتماء والهوية
بقلم/ يوسف المقوسي
العروبة إنتماء، الهوية إعتراف به، العروبة إنتماء لوجود. فيه درجة كبيرة من الإختيار؛ إن لم نقل هو إختيار وحسب.
ليس سهلاً الكتابة عن العروبة في هذه الأيام مع وجود شعبها في الدرك الأسفل. نكاد نفقد ثقتنا بأنفسنا وبهويتنا. جيوش من الدول الكبرى والإقليمية على أرض العرب. حروب أهلية لا تنتهي. نداس بأرجل سدنة الهيكل. هناك خلط كبير بينها وبين القومية والأمة، وبين العرب والأعراب. أُنزل الكتاب المقدس بلسان عربي. هذا الكتاب لا يحترم الأعراب. كثير من أبناء الأقليات الإثنية وغير الإثنية مهووسون بتعبير الأعراب. لديهم مسوّغ ديني لإنكار العروبة. يظهرون كلمة أعراب كما في الكتاب ويضمرون كرههم للعرب. يأسفون لأن الكتاب نزل بالعربية. يكرهون العربية والمتكلمين بها. لكنهم يحبون الله ويعبدونه. يزعجهم أن الطريق لذلك هو اللسان العربي.
نقول العروبة انتماء لأن الكثيرين من الناطقين بلغتها، ولا يعرفون لغة غيرها، ينكرون العروبة. لا بد من الإشارة الى أن أحد امراض النخب الإسلامية من غير العرب أنهم يحتقرون العرب. ربما ذلك لأن العرب مهزومون. العرب أنفسهم، حتى الذين منهم يعترفون بعروبتهم، يهشّمونها ويعتبرون أنها انتهت. كيف انتهت وهناك وجود عربي يُعد بمئات الملايين؟ لا يعترفون بأن الأمر كان يمكن أن يكون غير ذلك بالسياسة ولم يكن محتوماً.
ما دمّر العروبة هو عقود الاستبداد والأفواه الفاغرة بالشعارات واعتبارات انتهازية لقضية فلسطين. لا رحمة للمهزومين؛ خاصة وان دولاً مجاورة تصادر قضيتهم. باسم الدين يدينون العروبة. يتناسون انه لولا العروبة لما كان هؤلاء مسلمين. الشحنة العاطفية التي ملأت نفوس قبائل العرب جعلت الفتوحات ممكنة، وانتشار الدين ممكناً. استسلم العرب بعد ذلك للشعوب الأخرى من المسلمين. لم يعتبروا الدين حكراً عليهم. في الزمن الحاضر نقول هو للعرب أيضاً.
لكن العروبة تتجاوز الدين. تتجاوز ما يربط الإنسان بالله. هي في الأصل ارتباط بالدنيا. ارتباط بالأرض بعد أن شاع الدين وانتشر. الإسلاميون يكفّرون العروبة والعروبيين. لا يعترفون إلا بالإسلام والإسلاميين. يأخذون الدين الى السياسة. العرب يريدون عروبتهم كياناً مستقلاً عن الدين. ليس إنكاراً بالدين بل اعترافا بهذا الوجود العربي مهما أصابه من نوازل الدهر.
العروبة انتماء إلى وجود. اعتراف بهذا الوجود. وانضمام الى هذا الوجود. يريد العرب إنشاء أمة على أساس الوجود العربي، الذي كان قبل نزول الدين، والمستمر الى آخر البشرية. على المنكرين للوجود العربي، المحتقرين له، المتآمرين عليه، أن يجيبوا على السؤال الآتي: كيف يكون هذا الوجود دون كيان سياسي (بالأحرى كيانات أو دول سياسية)؛ علما أن الإنسان بحد ذاته كائن سياسي؟
ينكرون علينا السياسة. ينكرون علينا فصل الدين عن السياسة. هم يدمجون السياسة بالدين. أينما حاولوا تنفيذ مشروعهم على الأرض العربية هناك حروب أهلية. في اليمن، أمضى عربها شهوراً في الشارع يهتفون لإسقاط النظام. الى أن سيطر مشروع يخلط بين السياسة والدين، فكانت الحرب الأهلية مدمرة.
قال ابن خلدون العظيم أن العرب لا تستحثهم إلا دعوة دينية. نريد مخالفته. نبني انتمائنا العربي على قاعدة حداثية غير دينية. نريد من الآخرين اقتصار الدين على الإيمان. هم لا يريدون ذلك. يريدون الدين دعوة. نريد العروبة لا دينا جديداً بل عمرانا (وهذا تعبير لابن خلدون) جديداً قوامه العمل والإنتاج. ذلك لم يعد ممكناً دون حداثة تعتبر الإنسان، لا غيره، مركز الكون. الذين يريدون غير الإنسان مركزاً للكون هنيئاً لهم. الانتماء للعروبة هو بداية الهوية التي بدورها ترتب على صاحبها التزاما أو التزامات.
الانتماء العربي هو ما يمنحنا الهوية. ليس بالضرورة أنها هي الهوية الوحيدة. لكل منا هويات متعددة. منها ما يتعلق بالدولة القطرية التي ننتمي إليها. لا تناقض بين الدولة القطرية والهوية العربية وما يتعلق بذلك من انتماءات والتزامات. تمر هويتنا العروبية عبر دولنا كما هي. ما يوجب علينا قبل كل شيء بناء الدولة، الدولة القطرية. ينطلق كل ذلك من اعتبار أن الدولة كيان سياسي. تسييس الانتماء العربي العروبي يمر عبر الاعتراف بالدولة القطرية، وهي الكيان الوحيد المعترف به دولياً. ومن حسن حظ العرب أن الدولة العربية الكبرى هي مصر. دولتها عريقة. مؤسساتها ثابتة. الأمل معقود عليها.
مشكلة الوعي العربي حتى الآن هي الاعتراف بالدولة، أية دولة. الأجدى والأجدر الاعتراف بدولتنا وبالبناء فيها. ليست الدولة القطرية نقيض العروبة. هي الممر الإلزامي إليها. لا نستطيع كعرب بناء هوية جديدة دون البناء على الموجود، وهو الدولة. الظروف التاريخية التي أدت الى ظهور الدول العربية، وهي ظروف استعمارية، لم تعد مهمة. فشل أو نجاح الدولة يعتمد على سكانها. ولا يكون ذلك إلا بجعل الدولة مركزية في الوعي السائد. الأكثر من ذلك، إلغاء الهوية القطرية، هوية الدولة التي نحن فيها يؤدي الى إلغاء الهوية العربية. دون الدولة القطرية الموجودة لا هوية وطنية لأي منا؛ لا هوية لنا من أي نوع.
مفهوم الأمة السائد لا لزوم له إلا في الدين. تبنى الدولة على أسس حداثوية جديدة لن يكون لمتعلقات الأمة الدينية علاقة بها سوى أنها تراث لم يعد يلزم. مفهوم الأمة عند المسلمين عموماً مفهوم ديني لأمة دينية ودولة دينية. ذلك يتعارض مع الدولة القطرية. كل عربي موجود في دولة (قطرية). حتى تعبير القطرية يجب التخلي عنه لأنه يضع على الدولة كما هي شروط. فكأن هذه الدولة بطبيعتها جزء مما سيكون، وأن ما سيكون هو أمة بمفهوم إسلامي تراثي يتناقض مع الحداثة وما يجب أن تؤدي إليه العروبة. مفهوم الأمة من أي نوع يسحب الشرعية من الدولة القائمة ويدمرها. علينا أن نبني الدولة التي نحن فيها وحسب، واعتبارها نهائية. ومن منا لديهم تطلعات وحدوية، وحدة الوطن العربي، فإن ذلك يتعلّق بمصير نصنعه نحن من خلال الدولة الحالية. الوحدة العربية إذا كانت ستحصل، وفي اعتقادي لا بدّ منها، ستكون وحدة دول مستقلة. الوجود العربي سوف يعبّر عن نفسه بدولة ما. لكن ذلك أمر للمستقبل. لا يمكن التفكير بالمستقبل من دون الحاضر. أما الماضي، فهو لمن يشاء، سوى أنه لن يكون لنا. علّ علماء التاريخ من المستشرقين والعرب أن يجيدوا قراءته.
العروبة، الانتماء العربي، الهوية العربية، هي إلتزام؛ الإلتزام ليس بما كان بل بما سيكون. ما سيكون هو رهن الإرادة ويعتمد عليها. إذا استندت العروبة على ما مضى فهي سائرة حتماً الى الفناء. ليس للعروبة بقاء إلا بولوج المستقبل، واستقبال المجهول. المغامرة تبني الأمم. تعبير الأمة صار منغمساً في ذاتنا حتى أننا نستبدل به كل كلام عن المجتمع. نحن لا نتحدث عن الأمة هنا، بل عن المجتمع.
العروبة ليست أمة. هي وجود بشري لأناس يعتقدون أن المشترك بينهم هو ما يظنون أنهم عليه في الماضي والراهن والمستقبل. الأمة تؤسس على ماضٍ موهوم. أسس الرسول أمة على أساس مستقبل متوقع. لم يقطع العلاقة بالماضي. الإسلام يجب ما قبله. جعل الماضي ملحقاً بالحاضر والمستقبل. أنشأ امبراطورية كان النصر فيها لعدة قرون هو للعرب لا للعروبة. وعندما حُذِف العرب من التاريخ، تاريخ الفعل والانتصار والدولة، انحط الذهن العربي برغم انجازات عديدة على صعيد العلم والمعرفة. لم تستعد العروبة هويتها إلا بعد انهيار الدولة العثمانية. والآن يوجّه إلينا اللوم الأتراك لتعلقهم بالدولة العثمانية؛ والإيرانيون من ناحية أخرى لتعلقهم بدولة كانت لهم قبل أن يصيروا مسلمين. كل منهما يريد دولة إسلامية. من توريات الدهر وأسرار التاريخ أن العروبة لن يكتب لها النجاح، ولن يكتب لها البقاء، إلا في تأسيس دولة (دول) غير إسلامية. الإسلام دين وكفى. العروبة مجتمع لا يشكل فيه الدين إلا جانباً صادره إسلاميون عرب وأتراك وإيرانيون. العروبة تنبع من ذاتها. هذه الذات مرهون بقاؤها بالتبني الكامل للثقافة العالمية. ثقافة الغرب، ثقافة العلم والحداثة. الحداثة تعني التجدد الدائم. العلم يعني الاستناد الى التجربة البشرية؛ يعني أن خلاصة الوجود البشري تكون بالاستقراء؛ استقراء الوقائع للوصول الى نظريات وأحكام لا الاستنباط؛ استنباط ضرورات الوجود البشري من مبادىء ونظريات مقررة سلفاً. نتعلّم من الغرب. نتعلّم أن التجديد لا يحصل بالثورة لا على الدين فقط بل بالثورة في الدين. معنى ذلك الانتقال من بنية ذهنية الى بنية أخرى. من بنية تجتنب البدع الى بنية البدع. ذلك يستدعي نبذ الحديث الشريف عن البدعة على اعتبار أنه منقول. ألم يكن الإسلام بدعة؟ لأنه كان جديداً وتجديدا للمجتمع؟
القول: “اليوم أكملت لكم دينكم”، فيه مشكل. كيف نجدّد في دين قد اكتمل. يكون معناه الحقيقي مفيداً حين نفهمه على أن الدين جزء من المجتمع وليس كل المجتمع. الإسلاميون، ومنهم الإسلام السياسي، يريدون أن يكون الدين كل المجتمع، وأن يكونوا هم سدنة الهيكل، وأن يكونوا هم الوسيلة أو الواسطة بين المجتمع والله، وأن ينحبس الدين في ما يقولونه، وأن يكون ما يقولونه هو الدين. نقول الدين ضروري للإيمان فقط وعلينا تطهيره من كل الفقهيات. الإيمان هو الدين، ما عداه حق لكل الناس لا لسدنة الهيكل فقط. هناك الكتاب بين الفرد المؤمن والله. لا لزوم “لخبراء” في الدين. ما دام الإيمان مطلقاً، وهو لا يكون إلا مطلقاً، فلا شروط عليه. الشروط على الإيمان تضعف منه. تنزل به عن المطلق.
العروبة تجديد. فيها بدعة وابتداع. جعل الإسلاميون الله محور حياة البشر. جعلوا المجتمع يدور حول نفسه. ينغلق ويتراجع. العروبة تعني تدمير الانغلاق على الذات. والله جعل الإنسان خليفته على الأرض. جعل الإنسان مركز الدنيا بعد أن سلّمه إياها. أرض العروبة مليئة بالحروب الأهلية. جميعها تقريبا فرضها الإسلاميون. ذلك من أجل فرض عقيدتهم لا إيمانهم على الآخر. الإيمان تلقائي لا يحتاج الى دعاة. المجتمعات الإسلامية لا حاجة لإعادة أسلمتها.
القول بالعروبة على هذا النحو يعني إخراج العقل والذهن من الدائرة المغلقة. وإخراج الدين من الانغلاق، والمجتمع من مزيد من الانحدار. عروبة تتبنى المعاصرة والحداثة. تجعل العلم الحديث قاعدة للتفكير. والعقل أداة هذا التفكير. عروبة تستند الى نفسها ولا تستمد وجودها مما هو خارجها. عروبة يصير العقل جزءاً من روحها. ينبع فيها العلم الحديث من داخلها. تنظر الى التكنولوجيا على أنها حصيلة العلم وليس مجرد أدوات تبتاعها من الخارج. عروبة تعتمد العلم والنظرية منطلقاً للعمل والإنتاج بما في ذلك التكنولوجيا. تعتبر التكنولوجيا تكملة للعلم الحديث. نتيجة له، لا بديلاً عنه. عروبة تعتمد التجربة والخطأ. تستخرج الصواب من تجارب تستبعد الخطأ. عروبة دون أحكام مسبقة. عروبة تتخلى عن الفصل بين العلم والتكنولوجيا. عروبة مغامرة. تدخل في المجهول. لا تهدر وقتها في أفكار مستنبطة من قواعد في الذهن. تجد لذة في اقتحام المجهول. لا تقف عند شرح ما سبق وهوامش ما سبق وتهذيب ما سبق والتذييل عليه. عروبة تحقّق نفسها بالتجديد والابداع. من أجتهد فأخطأ فله أجر واحد، ومن اجتهد فأصاب فله أجران، كما قال الشافعي. عروبة تستتبع ذلك بالقول ان ما هو صحيح اليوم سنجده خطأً في المستقبل بناء على التجارب وغنى العقل البشري. عقل من دون حدود. أخلاق تستند الى الضمير. وعي تستقيم الأخلاق لديه؛ دون تحايل عقائدي على ما يفرضه الضمير والإيمان. إيمان أصله الضمير لا الطقوس.
العروبة هوية. معطاة لنا بحكم لغتنا. نجعل اللغة منطلقا للفعل والإرادة. لا فعل ولا إرادة باعتماد تكنولوجيا الغير دون علومه الحديثة. ننتج علما تتأسس عليه التكنولوجيا. نستخدم التكنولوجيا كقاعدة للإنتاج. لا خير يرجى من قوم يستوردون ما يأكلون. والقول لجبران خليل جبران. الهوية المعطاة بحكم لغة تصير اختياراً بفعل العمل والإنتاج والإرادة واعتماد الذات مصدراً لكل ذلك. عروبة فيها دستور وقوانين لكل بلد عربي. دستور مدني وقوانين مدنية. عروبة تحترم استقلال كل دولة عربية وسيادتها. عروبة تعتبر الدولة شرطاً لما عداها؛ ولا شروط عليها. عروبة تتخلى عن النفاق الكامن في تعبير “الأمة العربية والإسلامية”. نفاق يسحب الشرعية من كل دولة عربية. عروبة تبني الدولة ذات السيادة في كل بلد عربي كما هو، بحدوده الراهنة، مهما كانت أصول تعيين هذه الحدود. حدود كنا نتمناها على غير ما هي عليه. لكننا الآن نتمنى أن تبقى علي ما هي عليه. حدودنا الراهنة في كل بلد عربي هي خيارنا الوحيد. من أراد غيرها فليعمل على ثورة في العقل والضمير لإخراج المجتمع في كل بلد عربي من الانغلاق وتدمير ذاته. صار الدين وسيلة لانغلاق العقل ودوران المجتمع حول ذاته. عروبة تدمر هذا الانغلاق.
كل منا متعدد الهويات. فلتكن العروبة التي نريد هوية أخرى الى جانب هوية الدولة في البلد الذي نحن فيه.