المواسم الصامتة

المواسم الصامتة التى لا تعلن عن نفسها

تم نسخ الرابط بنجاح!
👁️ 10,097 مشاهدة

كتبت .. الأديبة والشاعرة سهام حلمى

 

هناك أوقات تمر على الإنسان تشبه المواسم الصامتة التي لا تُعلن عن نفسها، لكنها تغيّره إلى الأبد. أوقات لا تحمل ضجيج الأحداث ولا صخب الانفعالات، بل تحمل هدوءًا مراوغًا يشبه سطح البحر حين يخفي في أعماقه عاصفة كاملة.

في تلك اللحظات النادرة، تنضج الروح دون أن تصدر صوتًا. تنمو مثل شجرة قديمة تعرف أنها لا تحتاج الى شهود لتثبت أنها ما زالت تقاوم الريح. فالروح لا تنضج بالعمر، بل بالألم الذي مرّ من خلالها دون أن يحطمها، وبالفرح الذي دخلها دون أن يغرّها، وبالتجارب التي فتحت فيها نوافذ جديدة لم تكن تعرف أنها موجودة.

النضج الحقيقي لا يولد في وضح النهار، بل يولد في ليال طويلة جلس فيها الإنسان يراجع حديثه مع نفسه، ويعيد ترتيب فوضاه الداخلية، ويصغي الى النداءات الخافتة التي تجاهلها حين كان منشغلًا بالناس.
وفي تلك المراجعات، يتعلم المرء أن ما كان يراه نهاية لم يكن إلا بداية، وأن خسارة الأمس كانت حماية، وأن رحيل البعض كان رحمة، حتى لو جاء على هيئة وجع.

الناضج لا يعود كما كان.
يتعلم ألا يغضب بسهولة، وألا يرد بسرعة، وألا يستسلم لردود الفعل التي كانت تجره في السابق الى معارك لا تستحق.
يفهم أن الصبر ليس ضعفًا، وأن التجاهل ليس هروبًا، وأن السلام الداخلي أغلى من أي نقاش يستهلك روحه.

وحين تنضج الروح، تختلف نظرة الإنسان الى الحب.
لا يعود يبحث عن الحضور المبالغ فيه، ولا الوعود الكبيرة، ولا الكلمات التي تتضخم بلا فعل.
يصبح يبحث عن الأمان قبل الإعجاب، وعن الصدق قبل الغزل، وعن قلب يفهم معنى الاحتواء قبل أن يتقن فن الكلام.

وفي العمل، وفي العلاقات، وفي كل تفاصيل الحياة، يصبح الإنسان الناضج اكثر هدوءًا، وأكثر قدرة على فرز ما يستحق وما لا يستحق.
لا يعود يجري خلف كل شيء، بل يكتفي بما يليق به، لأن النضج علمه أن القيمة ليست في كثرة الخيارات، بل في جودة ما يختاره.

والأجمل في نضج الروح أنها تبدأ تحب الأشياء الصغيرة التي كان يمر فوقها دون انتباه: رائحة المطر، فنجان قهوة صادق، كلمة طيبة لا تنتظر مقابلًا، دعوة تأتي من قلب يعرف ما يقول، أو لحظة صمت شعر فيها أنه حي.
هذه التفاصيل، التي كانت تبدو عابرة، تصبح رسائل صغيرة تقول له: ما زال في الحياة ما يستحق الامتنان.

لكن النضج ليس وصولًا، بل مسار لا ينتهي.
كل خطوة فيه تكشف خطوة أخرى، وكل تجربة فيه تفتح بابًا جديدًا للفهم.
وما دام الإنسان قادرًا على الإصغاء الى نفسه، وعلى الاعتراف بأخطائه، وعلى تعديل طريقه دون أن يشعر بالهزيمة، فإنه يواصل النمو حتى لو ظن أن الوقت تأخر.

وحين يصل الى مرحلة يرى فيها العالم كما هو، لا كما أراد أن يكون، عندها فقط يدرك أن أجمل ما فعله هو أنه سمح لروحه أن تتغير.
وأن التغيير الذي جاء بصمت كان أعمق من كل التغييرات التي جاءت بضجيج.

فالروح حين تنضج، لا تحتاج الى إعلان، ولا الى جمهور، ولا الى شرح؛ يكفيها أنها أصبحت أكثر صفاء، وأكثر وعيًا، وأكثر قدرة على أن تحيا بسلام مع نفسها قبل أن تحيا مع الآخرين.

تم نسخ الرابط بنجاح!