التطور: البداية والنهاية
بقلم | د. أحمد الوحش وأ. ولاء خالد
التطور: البداية والنهاية، أمسك رجلٌ أربعيني القضبان الحديدية -التي يقف خلفها- باكياً في محاولة يائسةٍ يستجدي فيها كل الحاضرين صائحاً “أقسم أنني لا أعرفها، ولم أراها يوماً، إنني بريء، أتوسل إليك أيها القاضي…”، في تلك اللحظة بدأ مقالنا من داخل قاعة إحدى المحاكم الجنائية في المستقبل.
رد القاضي “لقد ارتكبت جريمة مسجلة بالصوت، والصورة”، ثم حكم القاضي على المتهم بقضاء بقية عمره في السجن المؤبد، نزلت هذه الكلمات على أذن الرجل كالصاعقة، ولم يستطع الرجل أن يتمالك نفسه، وشعر أن قدميه المرتجفتين لا تستطيعان حمله، واقصتر نظره على تلك القضبان التي أصبحت الحدود الجديدة لعالمه بعد أن كان حراً طليقاً في عالم شاسع جميل.
نظرت إليه زوجته، وأطفاله بعين الحسرة، وكل الحاضرين تمتلئ عيونهم بنظرات التعجب، كيف لهذا المهندس المسالم حسن السمعة أن يقتل فتاةً عشرينية!؟
أمرٌ لا يصدقه عقل، حتى أن القاضي راجعه ضميره مراراً، وتكراراً قبل هذا الحكم الصعب، لكن الجريمة موثقة، ولا يمكن تكذيب ما تراه أعين كل الحضور.
مرَّ عامٌ، وتفككت الأواصر الأسرية، ولم تعد الزوجة تطيق ارتباط اسمها بهذا القاتل، فتخطت هذا الزواج الذي لا منفعة منه، وانفصلت عن زوجها، وكره الأبناء أباهم، فتلك الجريمة وصمة عارٍ لهم، ولم يعد أحد يهتم لأمر هذا القاتل.
مرت الأيام، وأيقظ أحد الضباط السجين ذو الستين عاماً، فانتفض الرجل من مضجعه متسائلاً “ماذا هناك؟”، فأخبره الضابط أنهم يريدونه في المحكمة، فأقسم الرجل خوفاً أنه لم يتحرك من مكانه، ولم يقتل أحداً، فضحك الضابط، وطلب منه أن يستعد لاصطحابه إلى قاعة المحكمة.
وقف الرجل أمام القاضي ذاته تعلوه نظرات اللوم، والحزن، فتنهد القاضي، وأغمض عينه، وكل ما يراه أمامه تلك اللحظة التي أقسم فيها هذا البريء بعدم ارتكاب الجريمة.
بدأ القاضي الكلام مثقول اللسان متردداً “إنني أعلم أن اعتذاري لن يفيد، وأن ما ضاع من سنوات عمرك لا يمكن تعويضه، لقد تم إثبات براءتك، إنني آسف للغاية، إن القاضي يحكم بناءً على أدلة موجودة أمامه، وقد كان كل شيء في التحقيقات يدل على أنك المذنب، لكن الحقيقة تجلت أمامنا جميعاً أنك لست كذلك، أعتذر منك مرة أخرى، وأرجو أن تسامحني”.
قصة قصيرة لا تقل في خطورتها عن قصص أخرى، فهذا مقطع فيديو يوضح رجلٌ يسرق من متجر، وهذا تسجيل صوتي أرسل إلى شابٍ بصوت أحد معارفه الذي يهدده بالقتل، وهذا مقطع فيديو آخر يوضع فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة تستنجد أباها بعد غيابها عن المنزل لسنوات، وتطالبه بدفع فديةٍ إلى مختطفيها، وتلك شابةٌ لم تسلم من نظرات الاحتقار في الشارع لانتشار فيديوهات ترقص فيها بملابس غير محتشمة…إلخ.
وفي الحقيقة أيٌ من هؤلاء لم يفعل شيئاً، حتى أنهم لا يعلمون أنهم متهمون، أو أن هناك شيئاً يتهمهم بفعل مثل تلك الأمور، فكيف لشيء أن يحدث ولم يحدث في آن واحد؟
إن أول سؤالٍ سيخطر على بالك هو فيلم “face off”، حيث يتم تبديل الوجوه، أو ربما عمليات تجميل، ويتم إرتكاب الجرائم بوجوه أناسٍ أبرياء، لكن هل يتطلب الأمر حقاً إلى العمليات الجراحية وكل هذا العناء؟
بعد هذا السؤال يتوجب علينا أن نقلق، فإجابته بكل تأكيد ستحمل خطراً كبيراً سيواجهنا في المستقبل، وما ذكرته الآن هو حجرٍ صغير في سفح جبلٍ ضخم من الكوارث التي لا تخطر على بالِ أياً منا.
عزيزي القارئ، في السنوات الماضية أطلقت بعض تطبيقات الهواتف المحمولة التي تستطيع جمع كل بياناتك، وتحليلها، وإرسالها إلى جهات غامضة، وبعضها الآخر يتوفر فيه خاصية تركيب الوجوه، والصور، وهو أمرٌ ليس بجديد، فهناك برامج أقدم مثل “فوتوشوب” تستطيع فعل ذلك، وكنا نستطيع التمييز بين الصور الحقيقية، وتلك المزيفة، لكن مع دخول الذكاء الاصطناعي في شتى المجالات أصدرت تطبيقات تعتمد في برمجتها على تلك التقنيات، ولديها قدرة غير مسبوقة في التعرف على بعض الصور لشخص ما، وتحويلها إلى مقاطع فيديو يقوم فيها الشخص بأمورٍ لم يقم بها.
أصبح الذكاء الاصطناعي قادراً على تحريك الصورة الثابتة، وكل ما يحتاجه فقط هو وجهك، وسيجعلك تزور في تلك الفيديوهات أماكن لم تزرها يوماً، وتسير في شوارع لاتسمع عنها، وتفعل أموراً لم تكن لتفعلها، ليس ذلك فحسب، بل يتجه التطور إلى تحكم الآلة بنفسها ذاتياً؛ لتصبح كالإنسان لديها عقل، وإدراك، وذاكرة، وتحليل للمواقف، والكلام، وتعبيرات الوجه، وأمور أخرى عديدة، سيرى البعض أن هذا أمر رائع، لكن مما لا شك فيه أن هناك جانباً مظلماً لا نراه.
لقد بدأت نقاشي معك بأمورٍ أصبحت يومية، واعتيادية كصورة تتحرك، وشخص متوفي يحرك وجهه، ويبتسم لنا…إلخ من تلك الأمور اللطيفة، والبسيطة في ظاهرها الخطيرة، والكارثية في مضمونها.
إنني أتفق معك أن الذكاء الاصطناعي سيفيد البشر في حل كثيرٍ المعضلات، لكنه قد يتسبب في معضلات أكثر للبشرية، ناهيك عن خمول العقول، والبطالة…إلخ من أمورٍ ناقشتها في عدة مقالات سابقة يمكنك مراجعتها.
لمسنا العديد من تلك التقنيات في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تستخدم لوغاريتمات تعمل على تحليل الشخصيات، وبيانات المستخدمين، ومنشوراتهم، وبناءً على هذا الكم الهائل من بياناتك الخاصة -التي تفوق ما تعرفه أمهاتنا عنا- يدس لك التطبيق قليلاً من المنشورات الموجهة، والآراء المتدرجة من اتفاقك عليها إلى تلك التي كنت ترفضها رفضاً تاماً، ومع مرور الوقت يتغير كل شيء، وهذه المرة لا دخل للعامل البشري، إنما الحاسوب ذاتي التحكم، وتقنيات الذكاء الاصطناعي الذي يجمع البيانات من كل الجنسيات، والمجتمعات حول العالم، ويخزنها، ثم يحللها، ويعالجها، ويتخذ قراراه ذاتياً.
الأمر لا يتوقف على ذلك فقط، بل يستطيع أن يعالج حتى صورة جدك المتوفي منذ ٢٠ عاماً، ويعطيك فرصة لتتحدث معه في مقطع فيديو، وترى صورته أمامك كما تذكره في مخيلتك تماماً، وبجودة عالية.
من منا لا يشعر بالسعادة عند سماع صوت جده وابتسامته التي افتقدها؟ لكن هل فكرت يوماً أن تُستَغَل صور أحد أفراد عائلتك بالطريقة ذاتها في أمورٍ غير قانونية أو لا أخلاقية؟ بكل تأكيد ستتحول تلك السعادة إلى حيرة، وربما ستشعر بالقلق، وانعدام الثقة.
دعنا من تعديل، وتركيب الصور، وتلك الأمور الأقل خطورة؛ لنتحدث عن استغلالها في صناعة أسلحة ذكية لا يتحكم بها البشر، فهي ذاتية الحركة، ولكي تصبح قادرة على رؤية الأهداف سيتم تركيب كاميرات في كل مكان حول تلك الأسلحة، وكما ذكرت في السطور السابقة أنها تحلل البيانات، وتعالجها وتتخذ القرارات المختلفة، وإحدى تلك القرارات التفرقة بين العدو، والصديق، وهو أمرٌ جيد للأصدقاء، لكن هل هو جيد للأعداء؟
ولماذا نهتم بالأعداء؟ أليس هناك قوانين دولية للحروب تحذر قتل المدنيين؟ إن هذه الكتل المعدنية -التي لا تملك قلباً رحيماً- ستفتك بكل شيء يتحرك طالما صنفته عدواً، أو غير صديق، وأفضل مثال الجدار الحديدي الذكي الذي شاهدناه شاشات التلفاز بين الأراضي المحتلة، وقطاع غزة، وهو مربوط بكاميرات منتشرة في كل شبر من الأراضي المحتلة تراقب، وتجمع بيانات كل خطوة يخطوها الفلسطينين، ولا يمكنهم أن يتحركوا إلا بموافقة العدو، وهناك المدفع ذاتية الحركة، وتصنع بعض الدول جيوشاً من الروبوتات ذاتية الحركة؛ لتقاتل في الحروب، كل ذلك ولا زلنا في عام ٢٠٢٣م، فهل سألت نفسك كيف ستصبح الأدوات والأسلحة بعد ٢٠ عاماً من الآن؟
في الماضي لم تكن الثلاجات والغسالات والشاشات معتادة، لكن مع مرور الوقت أصبحت تلك الأدوات لا يخلو منها أي منزل، وبالمنطق ذاته ستدخل تلك الكتل المعدنية كل البيوت عاجلاً أم آجلاً، ستعد لك الفطور، والقهوة الصباحية، وتغسل عنك الصحون، وتنظف المنزل، وستعمل كمربية لأطفالك، وتقوم بواجبات زوجتك، وتزرع في عقول أطفالنا ما يود صانعها أن يحصده في المستقبل، وتعمل على رفاهية كل سكان الأرض، الراحة بانتظارنا يا صديقي…
-“إم تو بي!”
*”نعم سيدي”
-“كوب قهوة بدون سكر”
*”أوامر يا سيدي، إنني أسعى لراحتك”
أبشر لن تتأفف زوجتك من طلباتك الكثيرة بعد الآن، أو يزعجكِ زوجك بطلباته التي لا تنتهي، والأهم لن تطلب منك زوجتك أن تلقي القمامة في هذا الصندوق البعيد عن المنزل، لكن هل تخيلت يوماً أنك ستكون السبب في دخول عدوك لبيتك؟
ماذا لو قامت حرباً بين الدولة المصنعة والدولة المستوردة لتلك الآلات؟ لقد أصبح البيت، والحي، والمدينة، والدولة بأكملها تحت رحمة تلك الآلات، كيف سندافع عن أنفسنا بأيدينا الضعيفة أمام تلك الأيادي الحديدية؟
لم يعد الأعداء بحاجة إلى إرسال الجيوش لاحتلال بلاد أخرى، ستشتري أنت عدوك، وتدخله بيتك كما أدخل فرعون موسى إلى قصره.
بعض تلك الآلات تستطيع توقع خطواتك، أو قراراتك القادمة، فهناك بنك من البيانات التي تدخل في معادلة، ويتم تحليلها بناءً على سلوكياتك، وقراراتك، وأفعالك، ونمك تفكيرك ببعض المواقف السابقة، وتمييز الظروف المختلفة، لتكون نتيحة المعادلة القرار، أو الفعل، أو السلوك الذي ستقدم عليه، وهذه كارثة حقيقية يمكن من خلالها التحكم في سلوك المجتمعات، وإحداث تغييرات لم تكن لتحدث في الوضع العادي.
على الرغم من كل تلك المخاطر التي قد تواجهنا يظل الأمر تحت سيطرة البشر، وهو ما يشعرنا ببعض من الطمأنينة؛ لأننا في النهاية بشر لدينا مشاعر، وإنسانية مهما اختلفت جنسياتنا، وثقافاتنا، وإذا زاد الأمر عن الحد فسنمنع تلك الآلة من المبالغة في إحداث أي ضرر، أو فوضى… هنا يطرح السؤال الأكثر خطورة نفسه ماذا لو فقدنا السيطرة على تلك الآلات بطريقة أو بأخرى؟
اقرأ أيضًا:
البنك الأهلي المصري يوقع اتفاقية مع مكتب أبو ظبي للصادرات لفتح خط ائتمان بقيمة 100 مليون
بنك مصر 50مليون جنيه لدعم مشروعات التمكين الاقتصادي بقرى “حياة كريمة” في 7 محافظات
رئيس «الرقابة الصحية»: «الجودة» هي الفارق بين الخدمة الصحية المنظمة والعشوائية
البنك الزراعي المصري يطلق قرضاً جديداً للمساهمة في مصروفات التعليم لأبناء المزارعين
دكتور عُمر الشوربجي مدرس و استشاري المناظير الجراحية النسائيه و المشيمة الملتصقه
الدكتور محمد حسن زيتون استشاري امراض الباطنة والسكر ودهون الدم في حوار خاص للرأي العام المصري
القنصلية الايطاليه بالاسكندرية تحتفل بمئويه سيد درويش بشدو الفنانه لقاء سويدان
بنك القاهرة يواصل تحقيق أرقاماً قياسية في نتائج أعماله خلال النصف الأول من عام 2023