حسن إسميك يكتب: “دين.. تكنولوجيا.. سلام”
نعيش في هذا المشرق الكئيب منذ عقود كثيرة ما يمكن تسميته بـ”لعنة الحضارة”، هنا بدأ التاريخ، وتأسست العراقة، وعلى هذه الأرض ولد الإنسان الأول، الذي أخترع الكتابة وزرع ودجَّن وعزف وتفاوض وعقد معاهدات وصنع الأدوات وبنى وشيّد الأوابد… إنها الأرض ذاتها هي التي اختارها الله ﷻ لتكون وطن رسله وأنبياءه، منذ آدم وحتى محمد ﷺ. لكننا حولنا هذا الغنى الثقافي إلى عبء أثقل كاهلنا، أصبحنا في فصام دائم بين ما نريد أو نتوقع أن نكون عليه، وما نحن عليه في الواقع؛ بين ما نراه من أمم أوروبا مثلاً التي تعلمت في الماضي من العرب، وبيننا نحن العرب، نحاول دون أن ننجح، ونلهث دون أن نصل إلى المستوى المطلوب من التطور الفكري والتقني الذي يجعلنا في مصاف الأمم المتقدمة، ويؤهلنا لأن نكون ورثة حقيقين وحملة أكفاء لتاريخ أجدادنا ومنطقتنا.
والسؤال المشروع في هذا المقام لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه، وأي مسارات سلكتها أحوالنا، وكيف تحولت العطايا الإلهية في أيدينا إلى أغلال، ولماذا يفرقنا الدين وهو جامع، في حين تجمع التكنولوجيا المجتمعات البشرية وهي مفرقة؟
لقد حوَّلَنا ارتكازنا على موروثنا الحضاري إلى أناس اتكاليين، منشغلين بانقسامات دينية صنعناها بأنفسنا، وبخلافات بينية من أجل تسيّد هنا أو زعامة هناك، حتى سبقَنا ركب التاريخ، وصرنا في آخره وربما وراءه حضارياً، وإنسانياً أيضاً.
لم نكن على هذه الحال قديماً، فإنسان الحضارات التي سكنت هذه المنطقة في الزمن الغابر كان يفكر ويبحث ويعمل ويخترع، صحيحٌ أن وعيه لفكرة الألوهية كان بسيطاً أولياً عفوياً، حيث قدَّس بالعموم كل ما كان يخشاه، إلا أنه كان في بحث دائم ومستميت للإجابة عن الأسئلة الفلسفية الكبرى من قبيل: “ما المبدأ الأول الوجود؟” “وكيف خُلق الكون؟”. وما يزخر به الشرق الأدنى القديم من الملاحم الأسطورية المبدعة والشيقة، والتي إن اختلفت باختلاف وعي الإنسان بالمكان والبيئة والعلاقات، إلا أنها قدمت وعياً مهماً كمحاولات لتفسير الغيبي والمجهول، ضمن سرديات رمزية ممتعة، وعميقة على الصعيد الإنساني.
نجد مثلاً عند السومريين، الذين ازدهرت حضارتهم في الألف الرابع قبل الميلاد في بلاد الرافدين، أن الماء هو أصل كل شيء وهو المبدأ الأول للوجود، ومنه ولد “آن” إله السماء و “كي” آلهة الأرض، الذين أنجبا بدورهما “إنليل” إله الهواء الذي فصل الأرض عن السماء، وابنته “إنانا” إلهة القمر التي بدد الظلام. ولم يكن البشر إلا عبيداً لخدمة الآلهة.
أما عند البابليين فقد تطورت الأسطورة، وقدمت تفسيراً لخلق الكون في اسطورة “إينوما إيليش” وكيف تصارعت الآلهة، وخاضت حروب دموية، انتصر في نهايتها الإله “مردوخ” وتسلم مفاتيح القدر، وفكر في خلق السماء والأرض وما فيهما، وخلق الإنسان من دماء الإله المذنب كينغو، وبعده خُلقت الشمس والقمر والأرض.
ثم تطورت مثيولوجيا الوجود المشرقية فيما بعد، فباتت عملية الخلق أعقد، إذ احتاجت أن يقاتل “بعل” إله الخصب والماء “موت” إله الجفاف والموت، في تجسيد واضح لصراع الأضداد الذي سيظهر في أديان ومعتقدات ومذاهب فكرية كثيرة لاحقة.
يطول الحديث عن هذا الوعي البدائي لفكرة الألوهة، وتمتد الأساطير من أرض مصر وفراعنتها، إلى البوذيين والهنود في الشرق الأقصى، فتتشابه القصص تارة وتختلف تارة أخرى، لكنها جميعاً –ما انتهى منها وما بقي– توحي بأن الدين كان دافعاً وموجهاً لأغلب نتاج تلك الحضارات الأدبي والفني والمعماري والسياسي أيضاً. وحتى عندما حدثت الاختلافات بين هذه الشعوب، فإنها لم تؤدِ إلى انقسامات ولدت اقتتالاً أو حروباً دينية، أقله بين أتباع العقيدة الواحدة، مثلما سنشهد عند الاطلاع على تاريخ أتباع الديانات السماوية الثلاث.
كانت الديانة اليهودية أولى الأديان السماوية التي قدمت منظومة وعي مكتملة للحياة والموت ومصير الإنسان، ظهرت بداية في المشرق أيضاً، وما لبثت الانقسامات أن عرفت الطريق إليها، سواء أكانت لاهوتية الأصل أو اجتماعية أو في بعض الحالات سياسية. تتالت هذه الانقسامات على مراحل مختلفة من التاريخ اليهودي، فظهرت مجموعة كبيرة من الفرق أهمها: الفريسيون، والغيورون، والصديقيون، والآسينيون، والبناؤون، والسامريون، والمغاربة واليوذعانية، والمتعصبون، والكتبة أو النساخ، والعنانية أو القراؤون… وغيرهم كثير. ادعت كل فرقة من هذه الفرق أنها الأمثل، والأكثر تمسكاً بأصول الدين اليهودي وروحه.
لم يكن الحال أفضل بكثير مع ظهور المسيحية، القائمة على التعاليم التي تلقاها المسيح عيسى ابن مريم، فقد بدأت إرهاصات الفرقة تتبدى منذ القرن الميلادي الأول حول طبيعة السيد المسيح، ثم تتالت مجامع مسكونية عديدة لحل الخلافات وجمع الرأي من قبيل نيقية (325م) والقسطنطينية (381م) وأفسس (431م) وخلقدونية (451م) والقسطنطينية الثاني (451م)، وغيرها. واتُخذت قرارات وأُقصيت أطراف، وتسيدت أخرى، وبدلاً من الوحدة والوفاق ازدادت الفرقة والانشقاق. كما وظهرت خلافات حول أمور أخرى مثل الأيقونات وصور السيد المسيح، وكان أولها من قسطنطين الخامس، 775 ميلادي، الذي حطم الأيقونات ونزع القداسة عنها وعن التماثيل المرفوعة للسيد المسيح والعذراء، وعدَّ تكريمها طقوساً وثنية. أحدثت هذه القرارات خلافات داخل الكنيسة نفسها، ترافقت مع مشاحنات ومماحكات لاهوتية ضربت وحدة العقيدة وشتت هويتها، حتى جاء ما يسمى بـ “الانشقاق العظيم” والذي أدى إلى انفصال ما دعي لاحقاً بالبابوية الكاثوليكية في روما عن الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، بعد عشرات السنوات من الاختلاف لاهوتياً وطقسياً وسياسياً. فصارت المسيحية شرقية وغربية، ما شكل فاتحة لمجموعة كبيرة من التشظيات القادمة، نجمت عنها حروب طاحنة بين أهل الملّة الواحدة.
احتضن الشرق الإسلام أيضاً، ثالث الأديان السماوية وخاتمها، ونزل القرآن الكريم حاملاً قصص الأولين والأمم الغابرة، وبعضاً من خلافاتهم ومصائرهم نتيجة هذه الخلافات، فكان الأجدر بالمسلمين أن يعتبروا من تجارب من سبقهم من أهل الكتاب، لكن الفرقة طالت الإسلام أيضاً، فانشق –على طريق اليهودية والمسيحية– نظراً للاختلاف بفهم القرآن وتأويله، إلى شيعة وسنة في البداية، ليكون ما جاء في الحديث الشريف: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة».
مماحكات كثيرة دارت، وعُقدت مناظرات فكرية يدعي كلّ طرف فيها فهمه الأصح وقربه إلى الدين وإلى جوهر القرآن. ولو أن الخلاف اقتصر على الفكري لكان الأمر هيناً، إلا أنه تحول حروباً أودت ومازالت تودي –بعد أكثر من ألف سنة– بحياة المسلمين أصحاب الدين الواحد وأتباع النبي الذي خُتمت ببعثه رسالات السماء.
أسئلة كثيرة وصارخة يثيرها التفكير بمضمون إشكالية الفِرق الدينية هذه، أبسطها وأعقدها في آن واحد هو: ما دام الإيمان بالله الواحد الخالق العليم المريد هو جوهر الأديان كلها؛ لمَ هذا الخلاف بين أبناء الدين الواحد، وبين الأديان الثلاثة؟
ألم يقل سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ﴾، وليس لتتقاتلوا وتدمروا بعضكم بعضاً، وتعيثوا في الأرض خراباً وفساداً.
سؤال ثانٍ لا يقلُّ أهمية عن الأول: ماذا قدمت هذه الخلافات؟ وأي منجزات حضارية صنعت لخدمة البشرية والإنسان المعاصر؟ هذه الأسئلة وما يماثلها في المضمون برسم رجال الدين والقادة الروحيين من كافة الأديان!
ولكي لا يحدث أي لغط هنا، ينبع هذا الحديث كله من الغيرة على هذه المنطقة الغنية والكريمة، والتي تستحق أن تنعم بالأمن والسلام والتنمية، ومن الخوف على الإيمان والمؤمنين فيها من مدّعي التدين، والذين عملوا عبر العصور وخلال الأديان على تحقيق مصالحهم الشخصية على حساب مصالح الأمة والمجتمع.
ما دفع بالكثيرين حول العالم إلى عبادة “وثن جديد” من نوع مختلف، هو التكنولوجيا، وباتت تُزهق مليارات الدولارات شهرياً لشراء الأجهزة الذكية وتطبيقاتها وملحقاتها، وتُنفق مليارات أخرى على تطوير هذه التقنيات وتوظيفها في مجالات عدة، ليست كلها حميدة. يختلف هذا الوثن عن كلّ الأوثان الأخرى فهو قوي وواسع الانتشار، وله أذرع كثيرة تفوق بعددها ما للآلهة الهندية القديمة، وتتوزع في مجالات عديدة تبدأ بمواقع التواصل الاجتماعي ولا تنتهي عند الهندسة الوراثية أو اكتشاف الفضاء، أو بطبيعة الحال الأسلحة والمعدات الحربية.
تحقق التكنولوجيا الحديثة وتطبيقاتها اليوم للإنسان ما لم تستطع الأديان تحقيقه، نتيجة الانقسامات التي شهدتها والخلافات التي حالت بينها وبين قيامها بأدوارها المفترضة. تقرّب التكنولوجيا الناس، ووسائل التواصل الاجتماعي توحّد العالم وتجمع وتخلق التواصلية بين شعوبه، كما تمنحهم على حد سواء حرية الوصول إلى المعلومات. التكنولوجيا تفاعل ثقافي عالمي، تبني وتعمر، تسلي وترفه، وتمنح القوة لمن يمتلكها، قوة عظيمة إلى حد تحولت فيه إلى عامل ردع، يجعل الجميع يفكر كثيراً قبل شن الحروب، فحققت هذه القوة بمجرد وجودها نتائج تكاد تفوق استخدمها.
يؤكد قاموس الحضارة الإنسانية المعاصرة اليوم أن من لا ينتج أفكاراً أو علماً أو فلسفة، يظل خلف الحداثة وخارج التاريخ، لقد وضعتنا خلافاتنا الدينية عديمة القيمة خارج التاريخ، وبتنا نستجدي “الحضارة” ونحن أصحابها الأٌول.
لكن، ورغم كلّ المعطيات السابقة، لا يجب أن نرضخ لهذا الواقع ونتوقف بالتالي عن التفكير ببناء مشروعنا الحضاري الجديد، فذلك ما زال ممكناً، وخطوته الأولى هي الحوار، الحوار بين أتباع الدين ذاته، وأتباع الأديان السماوية الثلاثة فيما بينهم، حوار حقيقي يهدف –دون مراوغة– إلى مد الجسور ورأب الصدوع، وإغلاق الطريق على كلّ المتصيدين في الماء العكر، وقبل هذه وتلك إحلال السلام.
وفي هذ المجال أيضاً، تستطيع التكنولوجيا أن تلعب أدواراً إيجابية عديدة وجامعة، فتنشر خطاب التسامح والتعايش وتقبُّل الآخر، وتسخّر وصوله إلى أعداد هائلة من الناس لهذا الغرض. لقد قدمت الأديان إنجازات مهمة للبشرية، روحية وعلمية وفكرية، في لحظات تاريخية معينة، وتستطيع تكرار ذلك اليوم، بشرطٍ لازم وأساسي هو لفظ الخلافات الداخلية والبينية، وجملة شروط أخرى من قبيل: تجديد الخطاب بما يتناسب مع روح العصر والحداثة، والاستفادة من الثورة التكنولوجيا، وإنهاء النزعة الإقصائية والأحكام المسبقة المبنية على صور نمطية متخيلة لدى الأطراف جميعها، والإصغاء الدائم إلى صوت العقل.
لا تقتصر هذه الوصفة على المشرق، أو على الشرق الأوسط، بل تمتد لتشمل العالم كله، وهي العلاج الوحيد لئلا يكون مستقبل الحضارات صدامياً كما أرتأى هنتنغتن، بل يكون تاريخ حوارياً ليعيش الإنسان في سلام روحي وجسدي يمنحه القدرة على الإنتاج والإبداع، فكراً وعلماً وفناً.
نقلا عن إيلاف