القلم والمشرط: “هل تبكي روما من جديد؟ قراءة في تحولات السياسة الأمريكية”

القلم والمشرط: “هل تبكي روما من جديد؟ قراءة في تحولات السياسة الأمريكية”
بقلم د. أحمد الوحش

بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي أشرقت أمريكا شمسًا في كبد السماء؛ شمسٌ تدور في فلكها الأمم، وتقتبس من ضيائها السياسات والاقتصادات العالمية.
كانت حقبة يُقاس فيها كل شيءٍ بالدولار، الذي شكَّل أكثر من ٨٠٪ من التعاملات الدولية، وأصبح عملة الاحتياط العالمي (٥٨٪).
بلغت حصة الولايات المتحدة حينها نصف الناتج العالمي، حتى غدت المؤشر الذي يُقاس عليه ازدهار الاقتصاد العالمي، أو ركوده؛ فإذا كَسَفَ الاقتصاد الأمريكي خيَّم على الكوكب خريفٌ من الركود، وإن انجلى كسوفه، أزهرت الأسواق، وكان الربيع الاقتصادي المنشود، وبين كسوفها وسطوعها كانت السياسة العالمية تتمحور حولها كما تدور الكواكب حول الشمس.
لكن اليوم تبدو السماء ملبدة بالغيوم؛ فالمنافسون يتقدمون بوتيرةٍ متسارعةٍ لم تكن في الحسبان… الصين، وروسيا، والهند، وحتى أوروبا، فهل بدأت شمس الولايات المتحدة الأمريكية بالأفول؟
مما لا شك فيه أن اقتصاد اليوم ليس كالأمس؛ فعلى الرغم من بقاء الولايات المتحدة الاقتصاد الأكبر عالميًا بناتجٍ يتجاوز ٢٧ تريليون دولار سنويًا، فقد تراجعت حصتها من الناتج العالمي إلى نحو ٢٥٪. ربما لا يعكس هذا التراجع ضعفًا في الاقتصاد الأمريكي بقدر ما يُظهر نموًا أسرع لدى الآخرين، خاصة الهند والصين.
لا تزال الولايات المتحدة تمتلك أدوات التفوق الاقتصادي؛ فالدولار يحتفظ بهيمنته على ٨٠٪ من التعاملات الدولية، وشركاتها التقنية الكبرى مثل جوجل، وأبل، ومايكروسوفت، ونفيديا تظل عصب الاقتصاد الرقمي العالمي، إلى جانب شبكة من التحالفات والعلاقات التاريخية التي تمنحها ثقلًا لا يُستهان به.
بمعنى آخر، تراجع النسبة لا يعني تراجع النفوذ، بل اتساع دائرة المنافسة.
عسكريًا لا خلاف على أن الولايات المتحدة تمتلك أقوى جيشٍ في العالم، وأضخم ميزانية دفاع في التاريخ تتجاوز ٨٥٠ مليار دولار سنويًا، وتتفوق على خصومها في نوعية التسليح والتقنيات؛
فهي تمتلك ١١ حاملة طائرات متطورة، بينما تملك الصين اثنتين، وروسيا واحدة فقط.
تُحاصر خصومها بحزامٍ من القواعد العسكرية والأساطيل المتمركزة في أكثر من ٧٠ دولة، ويضمن ذلك لها الانتشار السريع، والتأثير العالمي شبه المطلق.
أما على الصعيد التكنولوجي، فما زال التفوق الأمريكي واضحًا في مجالات الفضاء، والذكاء الاصطناعي، والطائرات الشبحية، وأنظمة الدفاع والرصد المتقدم، والطاقة النووية، لكن تحاول الصين تقليص الفجوة عامًا بعد عام، خصوصًا في مجال الصواريخ فرط الصوتية، والتقنيات الذكية.
مع صعود تكتلات مثل “بريكس”، وعودة روسيا، ونهوض الصين، والهند، وأوروبا كقوى مؤثرة برزت فكرة التعددية القطبية بدلًا من الأحادية الأمريكية، وإن كانت الولايات المتحدة لا تزال ترفضها، إلا أنها مجبرة اليوم على التعايش معها -ولو مؤقتًا- بسبب الإرهاق الناتج عن الحروب، واعتماد العالم المتزايد على الصين…
هنا أدركت واشنطن أن السيطرة على كل شيء أمر مكلف، وغير فعال، فاتجهت إلى إدارة التوازن العالمي لا الهيمنة المطلقة؛ لتصبح محور التوازن بين تلك القوى، وبات المبدأ السائد في السياسات الدولية:
“إذا لم تستطع أن تتحالف مع أمريكا، فعلى الأقل تجنب الصدام معها.”
ومع ذلك، تواجه الولايات المتحدة اليوم نزيفًا داخليًا لا يقل خطرًا عن أي خصمٍ خارجي، فالانقسام السياسي والاجتماعي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي بات جرحًا غائرًا في الجسد الأمريكي، وتفاقمت أزمة الديون التي تجاوزت ٣٥ تريليون دولار، واعتمادها الصناعي المتزايد على دولٍ منافسة في سلاسل الإمداد، إضافةً إلى تراجع الثقة بعد حروبٍ استنزفتها كالعراق وأفغانستان…إلخ.
كل ذلك جعل الولايات المتحدة أقل حرية في حركتها، وأقرب إلى دولةٍ كبرى تدير التوازن بدلًا من فرضه.
لقد تعاقبت إداراتٌ أمريكية برؤى متباينة:
رفع دونالد ترامب شعار “أمريكا أولًا”، وآمن أن القوة الاقتصادية والصناعية والعسكرية هي ضمان الهيمنة، فتجنب الحروب الخارجية، وركز على الداخل، وقد نجح جزئيًا، لكن نتج عن ذلك خلافاتٍ مع الحلفاء.
أما جو بايدن، فاختار نهج التحالفات، معتبرًا أن توسيع نطاق التحالفات هو طريق التفوق،
وقد نجح جزئيًا أيضًا، لكنه لم يهتم بالداخل.
غياب التوازن بين هاتين الرؤيتين جعل السياسة الأمريكية الخارجية متأرجحة، وغير مستقرة.
فحتى الحلفاء، باتوا يتعاملون مع الولايات المتحدة وفق المدة المتبقية للرئيس في البيت الأبيض، لا بناءًا على الثقة الدائمة كما في الماضي.
يبقى السؤال الكبير:
هل تفقد الولايات المتحدة هيمنتها؟
هناك ثلاثة احتمالات… إما أن تظل أمريكا الشمس التي تتوسط السماء، أو يسطع ضوءٌ آخر من الشرق فيصبح للنهار أكثر من فجر، أو تغرب الشمس الأمريكية لتشرق مكانها شمسٌ آسيوية “جزئيًا”، فالصين تواجه كثيرًا من التحديات الداخلية، والاقتصادية كالديون، وغيرها.
يظل الاحتمال الأقرب إلى الواقع هو أن أمريكا لا تنهار، بل تتكيف مع التغيرات العالمية منتقلةً من مرحلة الهيمنة المطلقة إلى مرحلة القيادة التنافسية، وقد تكون هذه المرحلة مؤقتة.
الولايات المتحدة اليوم تقف عند مفترق التاريخ، والساسة الأمريكان في حيرة بين رغبتهم في الاحتفاظ بالأحادية، أو أن تصبح أمريكا أحد أعمدة نظام جديد متوازن؛ إن اختاروا الغطرسة والتسلط، فامبراطوريتهم حقًا تملك أدوات التفوق، والهيمنة، والتطوير، والابتكار لديهم أسرع من أي دولة أخرى، وحتى الآن تظل هي الدولة الوحيدة في العالم القادرة على التأثير في كل قارة، وكل ملف عالمي، وهو ما يمكنها لاحقًا مع اتباع سياسات صحيحة من استعادة هيمنتها، أو بالأصح “الاحتفاظ” بها، لكن في هذه الحالة تبقى الحقيقة التاريخية عاجلًا أو آجلًا قد تستيقظ أمريكا يومًا لتجد أن المدار قد تغيَّر، وأن الشمس أشرقت من الجانب الآخر من العالم.
قارئي العزيز، لا بداية بدون نهاية، ولا تشرق الشمس دون أن تغرب، ولعلي لم أجد خاتمة أبلغ من قصة سكيبيو إيميليانوس القائد الروماني الذي دمر مدينة قرطاج عام ١٤٦ ق.م عن بكرة أبيها، وأصبحت “الهيمنة المطلقة” لروما دون منازع، لكنه حين رأى المدينة رمادًا لم يتفاخر بالنصر، بل بكى؛ لأنه رأى الحقيقة، فقال كلمته التي تجاوزت حدود الزمان:
– “سيأتي يومٌ على روما، كما أتى هذا اليوم على قرطاج”.
نقدم لكم من خلال موقع (الرأى العام المصرى )، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.
لمتابعة صفحة الرأى العام المصرى على فيس بوك اضغط هنا
لمتابعة صفحة الرأى العام المصرى نيوز على فيس بوك اضغط هنا
لمتابعة صفحة قناة نيو دريم على فيس بوك اضغط هنا
لمتابعة الرأى العام المصرى على الانستجرام اضغط هنا
لمتابعة الرأى العام المصرى على الواتساب اضغط هنا
لمتابعة الرأى العام المصرى على التليجرام اضغط هنا









