الرئيسية
سقوط اللحظة الأخيرة
بقلم د. فتحية معروف
اليوم ٤/٩ قررت الانتحار … أتيت بكأسِ السمِ ووضعتها أمامي علي المنضدة، ظللت أتأملها لبعض الوقت، ولدهشتي شعرت بأن هناك رجلاً يشبهني بداخلها، مد يده وسحبني فإذا بي في المشفي، عرفته من الرائحة والحوائط البيضاء والأسِرَّةِ المميزة.
وضعوني في حجرة وتركوني، ليس هناك سوي عددٍ من الكرات مختلفة الألوان والأحجام وكرسي ومنضدة عليها دورق ماء وكأسين أحدهما ممتلئ الي المنتصف.
هناك صوت بدا وكأنه يخرج من كل الحوائط والسقف وحتي أرضية الحجرة يقول لي “هذه كراتك، ضع يدك علي أولها”
أمسكت بكرةً صغيرةً بين يدي، وانا أحاول أن أعرف ما يحدث لي، كان بالكرة ضوءٌ غريب وتأثيرٌ أغرب، وجدتني أحدثها رغما عني … أنتِ البداية التى لم أعيها، واللحظة التى لم أستشعرها أو لعلك أكثر لحظاتى إيلاماً، إلا ان ذاكرتي تخلصت منك وكأنك ما كنتِ لى وما كنت منكِ…
لكن هذا ليس مهماً ،إذا ضاعت منا الذاكرة سرقنا من خيالنا حكايات لها، وإذا ضَعُفَت صنعنا لها زاداً يقويها.
ليس مهماً أن أعرف ما حدث بالضبط، فما حدث لي قد حدث لملايين غيرى، كنت في مكانٍ رحيبٍ يسعني بكل متطلباتى حتي ضاق بي، فقرر في أحد الأيام طردى وحدث زلزال دمر المكان علي رأسى، وتصدعت الجدران ووسوس لي أحد “اهرب”، ومع محاولاتى للهرب ومحاولات البيت لطردى إنزلقت برأسي للخارج.
ليس هناك ما هو أصوب من أن نخرج للعالم برؤوسنا، نستطلع ما حولنا وليس هناك أخطأ من أن نقرر استكمال الرحلة، لكن هذا أيضاً لا يثير فلن يلومنى أحد علي ذلك؛ لأنه لن يلوم نفسه.
أمسكت الثانية وتأملتها قليلاً، ثم حملتها بين يدى أهدهدها قائلةً “بالتأكيد أن امرأة حملتني هكذا بين ذراعيها، ثم ألقمتني ثدييها لأنتزع بعضا من لبنها بعد أن انتزعت بعضاً من جسدها، كيف تحتمل مخلوقة مثل هذا الأمر! يوماً ما أراد تاجرٌ في إحدي المسرحيات أن يحصل علي عدة أرطال من رجل حى، لكن هذا لحسن حظه لم يحدث، إنها نعمة أن تكون رجلا فلن تضطرك ظروفك أن تضحي بأجزاء متوالية منك، ثم تستمر في اطعامها من ذاتك، هذا أيضاً ليس بأهميةٍ لأنه يتكرر دائماً وأبداً حتى فقد معناه، ثم أن الرجل قد دفع من ذاته في أحد الأيام ضلعاً كاملاً لكي تكون له امرأة تأخذ عنه مهمة التخلي عن أجزاء جسده.
إن لي أماً وضعتنى وأرضعتني، وهى وحدها التى تعرف ما حدث لي فى هذا الوقت، وإذا كنا نعتز بأن لنا ذاكرة فعلينا أن نستحى من نقصانها، وان خيوطها الأساسية في صدور الأمهات.
أمسكت الكرة الثالثة وحاولت مضغها أو مصها وقلت “وأنت أيضا لا أتذكرك إلا أننى أشاهد وأرى ما يحدث حينما يندفع كل منا في طريقه؛ للاعتماد علي نفسه فيضع كل ما يقع تحت يديه في فمه.
لقد أردت أن أثبت ذاتي أن أقول كلمة “أنا” بشتى الطرق؛ لذا فبالتأكيد حاولت أن أطعم نفسي وأن أضع كل شئ في فمي حتي أحذية أبي وأمى.
توقفت قليلا قبل التقاط التالية ثم قلت: “أما أنتِ فلسوف أمزج واقعك بخيالك، حلمك بيقظتك، إن أطيافك المترسبة بأعماقي ضبابية لا أري بوضوحٍ خلالها، إلا أنها تسعدنى تأسرنى تهزنى ولا أعرف هل ما أذكره صنعته وحدى أم أن للمحيطين بى رقع في ثوبه، ليس مهماً أيضاً معك أن أعرف ذاتى، فلم يكن لها هذا الشأن الذى نتدعيه عندما نكبر، إلا أن هذا لن يمنعنى من أن أري تلك اللحظة التى أحضر لي أبى فيها دراجة بثلاث عجلات، ولن أنسى قُبْلَةَ أمى حينما كتبت اسمى بحروف ضعيفة وخط ملتوى.
لن أنسى ذلك اليوم الذى وقع فيه الماء المغلى على بطنى وساقى اليمنى، ولا مقص الطبيب الذى كان يخلصنى به من الجلد المتهدل والمحترق…
ولا هذه الآلام الرهيبة التى استشعرها عندما ينزع الضمادة، غير هذا لا أعرف عنك سوى سحابات صيفٍ تنقشع قبل أن اكتشف وجودها.”
رفعت التى تليها قائلاً “أما أنت فأذكرك جيدا بل لعلنى أذكرك بشكل أكثر من طبيعى، لن أخلقك من عدم ولا من تجارب الآخرين.
إنك الوحيدة الصادقة النابعة من ذاتى يوم كنت بطهارة النهر الجارى ونقاء هواء الحقول، إنك اليوم الأول في المدرسة…
كانت المدرسة أعظم وأخطر تحدٍ تخيلته يومها، إنها المجهول الذى يجثم فوق مشاعرى الطفولية البريئة، والخوف الذى جهلت معناه فأتتنى منه جرعة زائدة، كم عذبنى الاحساس بين لهفتى وخوفى.
حيرتى من كلمات أبى وأمى والتى بدت لى بلا معنى،
ماذا يضيرنى إن كنت ذكياً أو غبياً؟ ماذا يعنينى إن نجحت أو رسبت؟ إن ذاكرت أو أهملت…
إننى طفل لا أعى من حياتى سوى احتياجاتى، لو أعطونى قطعة شيكولاتة لكانت أفضل -لكن هذا لم يمنعنى من الفرح عند كتابة اسمى واسم امى وأبى- وحينما أشرت لأبى على حروف الجر فى الجريدة، ولم يمنعني من الاستمتاع بحصص الموسيقى وبرؤية البيانو الكبير أسود اللون، حينما تضربه المدرسة ويخرج ألحانا شجية.
أتذكر زملائى الذين ضربتهم، والذين أعطيتهم طعامى، كما أتذكر نجاحى بمجموع رائع في الشهادة الإبتدائية، والساعة الرقمية التى حصلت عليها وكانت وقتها أكبر من أحلامى.
هززت رأسى وأمسكت اكثرهن لمعاناً متأملاً ما بها من ألوان متعددة وتجاعيد كثيرة .. كم أنت خطرة وماكرة! وما هذه الأخاديد والنتوءات سوى آلات سحرك التى تبهرنا، ترفعنا وتخفضنا، تهدهدنا وتضربنا ، ومع كل لحظة تزيد خلايانا .. تتضاعف .. تستطيل قاماتنا، وتقوى أبداننا، فنثور علي الطبيعة التى أعطتنا جسداً وسلبتنا براءةً ثم نعود فندعى البراءة، نمثلها ونكتشف أن الروح فينا قد ضاعت بين العضلات التى تضخمت، والجسد الذى نما والشعر الذي نَبُتَ دون إذن منا…
فى يوم وجدت صديقة أمي تنبهها أننى كبرت وصرت رجلاً -كم أحببتها لأنها جعلتنى رجلا- وجدت أن الرجال لهم شوارباً، فتأملته فى المرآه ولم أجده، فأمسكت بآلة الحلاقة الخاصة بأبى لأتعجل صنع الشارب.
وجدتهم يدخنون فأمسكت بسيجارة بين سبابتى والوسطى ووضعتها فى فمى فسعلت، هم لايسعلون ولم أسعل بعدها؟ حصلت عليها مرة من مصروفى ومرة من صديقى ومرات من علبة أبي…
وجدت أن هناك عالماً خاصاً يلعب فيه الرجال والنساء أدوار البطولة، فبحثت مثل كل رجل عن أنثاه، ووجدتها غازلتها فاستجابت لكلماتى التى لم تكن اطراءً لها بقدر ما هى إختبار لنفسى، وعندما نجحت خرجت معها وتنزهنا فى الحدائق والشوارع، أمسكت يدها وكتبت لها خطابات لم أعي كلماتها…
قرأت في الروايات أنهم يتعانقون فعانقتها، ورأيتهم فى الأفلام يقبلون بعضهم البعض فقبلتها.
أردت أن أشعر بما يشعرون، وشعرت تماماً مثلهم وعندها علمت ان للجسد مطالباً تزيد مع الأيام، وتتنوع لكننى لم أتخط هذه المعرفة…
رحل أبى فجأة ووجدت أمى وأخواتى يعتبروننى رجلاً فكنت رجلاً أمامهم وطفلاً يتلوى تحت وقع تخيلهم لهذا الرجل.
كنت أحبو وأرادو ادخالى سباقا للعدو، وما حدث كان كارثة، فشلت فى تحمل المسئولية الرهيبة التى سقطت علي كاهلي، فوجدتنى بين ثنايا يأسٍ قاتلٍ دفعنى لأن أشترى لحظات وهمية بآلاف الجنيهات التى اقتطعتها من ميراث أبى ومن أفواه أخوتى.
بمرارة شديدة وبطئ أشد سحبت التالية بينما صافرة القطار تصم أذني…
اما أنت فأحفظ كل شقٍ في جدارك وكل هوة في أرضك … أنت الكابوس الذى يوقظ الإنسان علي صرخات نفسه، أنت ذلك اليوم الذى تهشم فيه رأسها فانفرج عن مادة لزجة رمادية اللون كثيرة التجاعيد، كانت منذ لحظات ترسل إشاراتها لكل جزء فيها فينبض بالحياة ويتفجر بالحيوية.
أما انا فقد كنت بجانبها، لم يتهشم شئ داخلي سوى جزء كالدخان .. كالضباب .. لم يظهر بصور الأشعة التى أكد كل الأطباء سلامة صاحبها.
لم يشاهد أحدهم جسدك الغض كما هو مكتمل الأنوثة رائع التقاسيم، ولم يصعد من ساقيك لصدرك ثم لرقبتك فلا يجد ما يزعجه، وحينما يتطلع لهذه الملامح رائعة الجمال، ويكاد يراهة بعين خياله تصعقه الطبيعة القاسية التى أعطت ثم أخذت … كان الضياء ينام في نهر من الدماء والرأس المفتوحة علي مصراعيها، قد طردت ساكنها فبدا وكأنه مخ عادى لأى حيوان صدمته سيارة أو ذبحه جزار. لكنه لم يكن كذلك، كانت الحياة التى غدرت والطعنة التى أتت بغتة، كان الثقة التى ضاعت بينى وبين العالم … كيف يشاهد الأطباء تسلل الثقة من نفوسنا على صور أشعتهم؟ كيف يسمعون صرخات أرواحنا بسماعاتهم؟ كيف يشخصون انتهاء الرغبة فى البقاء؟
لقد رأيت فى الحقيقة ما لم أشاهده في كوابيس نومى، وعشت فى الحياة ما خلصنى من الحياة…
لقد عشت طويلاً كرقم بين الأرقام، حيوان متوسط بين قطيع بالملايين، إذا مت الآن فلن يتذكرنى سوى حفنة أشخاص، وسينسوننى بعد قليل، لن يكون لموتي دوى قنبلة أو حتى حفيف ورقة شجر، أين الانسان داخلى ؟
لقد سايرت الجميع وعشت مثلهم ولكن أين انا حقاً؟ لماذا لم أركل الأحجار التى تمنيت ركلها في الطريق؟
لماذا لم أسبح عاريا فى النهر كما أردت ذلك الصيف ؟! لماذا لم أنلها حينما اشتهيتها ؟ لماذا لم أصفع هذا الرجل الذى دهس قدمى واعتذر؟
كل شئ وأي شئ مهما صغر شعرت معه بأننى مراقب من الله .. من أهلى ..من الآخرين، و من نفسى.
دائماً ما ينتابنى شعور بأننى لست وحدى، أريد أن أكون وحدي ولهذا اتخذت هذا القرار.
لم ألمس الكرة الأخيرة وبدوت متردداً فقد بدأت هواجس أخرى تتلاعب بعقلى قائلة: “ومع هذا فإن للحياة وجه آخر، لم يتكشف لك ألا الآن…
إن الأشياء لا تبدو رائعة إلا حينما تقترب من نهايتها، إن حياتك بكل بؤسها وشقائها بكل فرحها ومرحها، بصدقها وزيفها هى أنت…
إن كانت البداية قسراً فالطريق اختياراً، النهاية وحدها تملك الاحتمالين فإما أن يتخلص منك العالم أو تتخلص انت منه … ما القرار الآن؟
لا أستطع الرد أو حتي التفكير فى إجابة يبدو أن عزيمتى تتراجع وإرادتى تهتز فوق حبال الشك، فالحياة نفسها تكون بلا معنى إن فقدنا يأسنا وفشلنا…
إن اليأس والألم هما المصباح السحرى، الذى يجعلنا نواصل حياتنا، نحن نريد دائما التغلب على شئ ما، الانتصار علي أحد، النجاح والأمل أقل كفاءة في جعلنا نتمسك بالحياة.
الحياة الاكثر رفاهية تنزلق من أيادى أصحابها أما من يُعَبِدون الطريق ويحطمون الصخور، فهم من يعيشون حياتهم طولاً وعرضاً ويخلقون لها بعداً ثالثاً ورابعاً، هل هذه هلاوس تنتابني؟ هل الحياة تبني درعها؛ لتصد سيف الردى؟ ماذا يحدث لى؟ هل هو المجهول الذى نخشاه جميعاً؟
لو أن هذه الكرة تكشف عن نفسها ولو قليلاً، تظهر بعضاً من خوافيها، تمنحنا ولو نبذة ضئيلة عن جوفها عما تحمله لنا، لعلى أريد ضمانات لا أحد يمنحها، لعله عالم أرقى، عالم من النعيم الدائم أصواته خرير المياه وشدو البلابل، ألوانه شفقاً وغسقاً…
حيث راحة التخلص من ارادتنا المهلكة وابتلاءاتنا المتكررة … لا لا هذه كلها وساوس وهلاوس.
قد يكون الأرقى لكنه لن يكون الأجمل، هذا هو العالم الأجمل هنا الأبيض والأسود فى صف واحد، السعادة والشقاء يتجاوران، اللذة والألم متلاحمان، أمواج تتلاطم تزيح إحداها الأخرى، زقزقة العصافير يقطعها نعيق الغراب، هذا هو العالم الذى أريده وأخشاه، اشعر أن أحداً قد عبث بشفرتى، قد أعاد ترتيب الاشياء في رأسى ماذا يحدث لى؟
لماذا أصبحت بهذا الاضطراب انحنيت متأملا الكأس من جديد، وشعرت بأنني أراها للمرة الأولي، ظللت افكر حتى كاد رأسى يتفتت…
بعد قليل أخذت الدورق بهدوء وملأت الكأس الأخرى بالماء، وأدرت المنضدة عدة دورات بينما أغلقت جفونى؛ حتى لا أرى، ومددت يدى علي الكأس التى صادفتها ووضعتها بين شفتى، قبل أن ينطلق الصوت في دهشة ولهفة قائلا “هذه لحظتك الأخيرة . هل تعى ما تفعل؟” لم أتحدث إليه بل شربت الكأس.