بنك مصر
بنك مصر
بنك مصر
2b7dd046-8b2b-408c-8c9e-48604659ffe0
البنك الاهلى المصرى
البنك الاهلى المصرى
مقالات

عودة وفي رأسي سؤالٍ واحدٍ سأقابل به العالم الجديد.

بقلم د/ فتحية محمد معروف

 

لا أدري كم من الوقت مضي وانا مكوم فوق الأريكة، أتأمل ما حولي في سكون، وأتتبع خطوط الضوء الباهتة، التي يرسلها المصباح الوحيد بالحجرة -الذي اهملته تماماً- حتي اصبح النور شاحباً يسقط علي الأشياء فلا يكاد يُظهِرُها، تسللتُ خلف خط منه يتلوي كأفعي في وادٍ صخري مليئ بالأخاديد والمنحنيات، فضاقت عيني بالمشهد حينما داعبت مخيلتي ذكري الفراش النظيف، ولسبب ما تنقلت عيني فاحصةً المكان، تعدد ساكنيه من الجرذان والذباب والصراصير ومعهم كلب وعجوز مثلي ينازعهم مملكتهم.

صحوتُ علي حركة بسيطة خلفي، كان الكلب الضامر يدخل في وهنٍ وقطرات الدم تتساقط تحت قدميه أينما سار، تأملته باحثاً عن الجرح فألفيت أذنه اليمني قطعت بكاملها وأشفقت عليه، لماذا فعلو به هذا؟ ألا يكفيه وجوده مع جثة لا حياة لها إلا أطياف ماضيها الحي؟
قمت متثاقلاً أنقل قدماً وأسحب الأخري في تراخٍ، وأنا أستحثُ نفسي السرعة بعد عبثٍ كثير وعناءٌ أكثر وجدته في زجاجته، مزقت أطراف الستار البالي وبللته بالسائل، ضمدت له جراحه ثم ارتميت بجانبه ألهثُ، وأخذت أتأمل بقع الدم وأتذكر الحياة…

تلك التي كانت تجري بعروقي حينما كنت شاباً لا يقر له قرار ولا يأمن له الهدوء جانباً، تذكرت أيام خدمتي العسكرية وأوامر الضباط وطابور الصباح وزوجتي وأولادي والعمل المضني صباحاً ومساءً؛ لتوفير نفقات حياتهم، وكيف أنني استطعت أن أساير الحياة وأتطور معها، كيف صرت كبيراً بعض الشئ مهما بَعَضَ الشئ، فرفعت بيتي طابقاً تلو الآخر إلي أن زاد الضغط عليه ولم يحتمل، فهدمت طابقاً ثم طابقين وعاد البيت قزماً كما كان، وعدت بوظيفة صغيرة كما كنت.
كبر أولادي وصغرت وظللت أقِلُ وأصغر وأشيب فلا أصلح لشئ، فرفعوني ككتبي القديمة؛ لأستريح فوق رف المعاش، وقالوا لقد انتهت قدرتك علي العمل، فلم أصدق وقاومت قليلاً بقلب مقيد فانهزمت، ووضعت نفسي بنفسي حيث شاءوا.

وعندما أتى بعضهم يقول لي “يجب الرحيل البيت لا يحتمل، جدرانه أكلتها الرطوبة وأساسه وطأته قدم الزمان”، لم أصدق، وقررت البقاء أنا والبيت والكلب، رحل الجميع ولم أتحرك والبيت لم يسقط والكلب لم يمت، لكن البيت يتآكل والكلب يتأوه ويضعف، ولم يعد يطلق أنينه لعله نام، قمت لأتحسسه وإذا به بارد كالثلج والدماء متخثرة بجانب أذنه، لماذا استسلم للموت ولم يقاوم؟ يجب أن يقاوم، الكلام لا يفيد يجب أن أحفر له بجانبي هنا، فالمقبرة ثلاثية ولن أقاوم الفكرة ترعبني وتؤلمني…

رأيت ضوءً شديداً يسطع فجأة ويختفي فتعود الحجرة كالحة باهتة كما كانت، كان البرق تلاه الرعد يقصف بالخارج، الرياح تصفر والحجرة تئز بحملها، كل ما فيها يهتز بشدة يتأوه يبعث من غيبوبته، وكأن الحجرة مارد يخرج من قمقمه يكاد يحطمه، هل ستنهار عليَّ الآن؟
لا أدري … لا أستطيع الحركة، زجاج النافذة يتحرك بعصبية تحت وطأة الرياح، صفعة شديدة تحطمه وتتناثر أشلاؤه في كل إتجاه، اقتربت شظية من عيني فأبعدتها في حدةٍ لأول مرة تتحرك يدي بهذه السهولة والقوة، حركت قدمي وهززت جسدي بشدة، انتفضت ونفضت عني غبار السنين، أطلقت جسدي للرياح وعدوت خارجاً وفي رأسي سؤالٍ واحدٍ سأقابل به العالم الجديد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى