أخر الأخبار
غربة الروح
الأديبة والشاعرة سهام حلمى تكتب
تم نسخ الرابط بنجاح!

👁️
10,450 مشاهدة
غربة الروح
كتبت ..الأديبة والشاعرة سهام حلمى
في لحظة ما، دون سابق موعد، يكتشف الانسان انه صار ضيفا في حياته، يمر في ايامه كما يمر الغريب في مدينة لا يعرف خرائط شوارعها. لا يعرف كيف حدث هذا التحول، ولا متى خفت صوته بين الاصوات، ولا كيف تراجع حضوره خلف ستار من الانشغال والاعتياد والسكوت الطويل.
يبدأ الامر بخطوة صغيرة لا ينتبه لها احد: تنازل بسيط عن حق، تأجيل حلم، قبول علاقة متعبة خوفا من الوحدة، الابتلاع الصامت لكلمة كان يجب ان تُقال. ومع كل تنازل، ينكمش الجزء الصريح الحقيقي في داخله، ويتقدم للواجهة شخص اخر يشبهه لكنه لا يمثله. نسخة هادئة اكثر مما يجب، متسامحة اكثر مما تحتاج، وصامتة اكثر مما تطيق.
وتدور الايام، ويستيقظ فجأة ليجد انه ليس سيد قراراته، وان حياته تُدار بالصدفة، وان ملامحه النفسية صارت بذلك النوع الضبابي الذي لا يُرى بوضوح ولكنه لا يختفي ايضا. ويحدث ان يرى نفسه في مرآة لا تعكس وجهه فقط، بل تعكس السنين التي افلتت من بين يديه، والايام التي مرّت دون ان تترك فيه اثرا طيباً.
الغريب ان الانسان لا يلاحظ ضياعه الا حين تتراكم عليه الاشياء التي لم يعد قادرا على الهروب منها: علاقة لا تشبهه، عمل يسلبه شغفه، بيت بلا دفء، واصدقاء لم يعودوا يعرفون صوته الحقيقي. حينها يفهم ان الغربة ليست في المكان، بل في الروح التي لم تعد تجد نفسها.
لكن العودة ممكنة. العودة دائما ممكنة.
فالانسان، مهما ابتعد عن ذاته، يظل يحمل في داخله خيطا رفيعا يربطه بها، خيطا لا ينقطع مهما اشتدت العواصف. يكفي ان يستمع مرة واحدة لصوت داخلي صغير يقول له: كفى. كفى خوفا، كفى مجاملة، كفى محاولات للانتماء لاماكن لا تسعه ولقلوب لا تتسع له.
العودة تبدأ بقرار بسيط: ان يعطي نفسه مساحة للتنفس. ان يختار ابسط الاشياء التي تمثله، ان يجلس مع ذاته جلسة صادقة، يراجع فيها ما بقي منه وما ضاع، وما يستحق ان يعود اليه وما يجب ان يتركه بلا رجعة. ان يعترف انه تعب، وان التعب ليس ضعفا بل اعلان رغبة في حياة اكثر صدقا.
ومع اول خطوة تجاه الذات، يبدأ العالم في الاتساع. تبدأ الروح تسترد صوتها، وتستعيد ملامحها، وتعود للوقوف في مقدمة المشهد بدلا من الجلوس في المقاعد الخلفية. وتدريجيا يفهم الانسان ان حياته لم تكن تحتاج معجزة، بل كانت تحتاج شجاعة، وان العودة الى الذات اصعب الطرق لكنها اكثرها امتلاء وطمأنينة.
وفي النهاية، لا يولد الانسان غريبا، ولا يعيش غريبا، الا حين يتخلى عن نفسه. اما حين يحتضن روحه، فلن يبقى ضيفا في حياته، بل يصبح سيدها، حارس ابوابها، ومالك مفاتيحها من جديد.
تم نسخ الرابط بنجاح!









