فلسفة الإصلاح والاستمرار بقلم أحمد الوحش
بقلم الدكتور أحمد الوحش
لطالما شَغَلَ السفر عبر الزمان بالَ الإنسان تارةً من بابِ الفضول، والاستكشاف، وتارةً أخرى من باب التغيير، فتصوَّر البعض إمكانية حدوث ذلك بآلة، وتحدث البعض الآخر عن فجوات وثقوب سوداء…إلخ من الطرق الأشبه بالمستحيلة، فلماذا يرهق الإنسان نفسه؟
يحاول بعض العلماء استكشاف التاريخ وأحداثه كأنه مقطع مصور من بثٍ مباشر، ويسعى البعض الآخر إلى تغيير بعض الأحداث الزمنية؛ ليصبح العالم “صحياً” أكثر بلغتنا الدارجة…إلخ، سأحدثك اليوم عن بعض مما تعلمته من سفري، لقد مررت بأقوامٍ كثيرة لم أشهد وجودهم، لكنني شهدت أطلالهم، وبناياتهم التي تعكس حياتهم من سطور التاريخ، اسمح لي أن أشاركك أولاً تساؤلاً راودني في كل بقعة زرتها من تلك البلاد، “يا أبو حميد، لو أنت تملك آلة الزمن هترجع؟ ولا إيه رأيك؟”.
إن الاستكشافَ والفضولَ من الدوافع الملحة على الإنسان، فلا يمكن لإنسانٍ أن يعيشَ دون أن يستكشفَ، أو يشعرَ بالفضول، وأجمل ما يميزهما امتزاجهما بالغموض، دعني أوضح لك ما أقصده، ماذا لو عُدنا إلى زمن الفراعنة أو الرومان…إلخ وشاهدنا بأعيننا كلَّ التفاصيل؟
سأجيبك، سنكتب الكتب التاريخية المملة التي ستظهر كل الحقائق المفصلة، فيضيع شغف البحث، ويخمل العقل الساعي لفهم هذا الجزء المفقود من كل قصة، فقد تساوى الغموض والوضوح.
ستغلق المراكز البحثية، ويخمل الإنسان، ويفقد أحد أهم صفاته البشرية، وهو الشغف.
من وجهة نظري المحدودة إن أفضل طريقة للسفر عبر الزمان هي الوقوف في المكان الذي مرَّ عليه هذا الزمان، واستكشاف مراحل تكوينه الغامضة، وتصور حياة من عاشوا في هذه البقعة من الأرض على مر عصورها، هنا يمتزج الغموض، والشغف، والفضول، فلا يجب علينا أن نفهم كل شيء؛ لأننا لسنا بحاجة لذلك.
إن أجمل ما يميزنا نحن البشر أننا نخطئ قبل أن نصيب، وعلى الرغم من أخطائنا -كانت كبيرة أو صغيرة- نملك دائماً الأمل في الإصلاح، فماذا لو امتلكنا آلية تعديل المسارات؟
في رأيي الشخصي -الذي يحتمل الخطأ قبل الصواب- هذا يجردنا من الإرادة البشرية، والأمل الدائم، فالإنسان عليه أن يتعامل مع الأخطاء بمبدأ “إرادة الإصلاح”، لا التغيير الجذري أو الراديكالي للأمور، فلو توجب علينا أن نقتلع الأخطاء من جذورها، فهذا يعني أننا فقدنا مميزاتنا البشرية، وسنفقد معها كل شيء.
لماذا نعود في الزمان لتحذير أهل طروادة من حصان الإخائيين؟ وما الفائدة من العودة لإيقاف بركان فيزوف؟ هل من الصواب أن نعود في الزمن لوقف الصراعات والنزاعات؟
يتوجب علينا أن نشعر ببعض الألم؛ لنتعلم، ونفهم كيفية الإصلاح، وأن نرتكب بعض الأخطاء الآن؛ لنصوبها لاحقاً، هذا ما تمليه علينا طبائعنا البشرية، يمكننا تصحيح الأخطاء جميعها في الحاضر أو المستقبل، العالم لن يتوقف عند خطأ كبير كان أو صغير في الماضي، وفي كل الأحوال سيظل العالم موجوداً إلى أجلٍ لا يعلمه إلا اللّٰه، وهذا يعني أن فرصة الإصلاح لا تزال موجودة طالما يتنفس الإنسان.
إن شعورنا باليأس المؤقت أمرٌ ضروري؛ لنتمسك بالأمل الدائم، وشعورنا بالألم أكثر ضرورة؛ لنعيد توجيه الأمور صوب اتجاهها الصحيح، ولولا القرارات المتسرعة في لحظات الغضب لما تراجعنا عنها للتمسك من جديد بما نريد.
أعجبتني للغاية فكرة فيلم “The Adjustment Bureau”، لم يكن الفيلم عن العودة في الزمن، لكنه يعبر عن الإرادة الدائمة للإنسان المتمسك حتى النهاية بما يريد، هنا يختلف الأمر عن السفر عبر الزمان، ففي النقطة الأولى اعترافٌ بالخطأ، وإرادةٌ للتغيير، وتمسكٌ بالاستمرارية مهما كانت الظروف والأحوال، بينما الأخيرة فيها تراجع للخلف، ومحاولة للتغيير الجذري، وإعادة كل شيء إلى الصفر نتيجة لضعف الإرادة، فهل هذا يعني أن نتيجة المسار لن تكون واحدة في النهاية؟ وإن لم تكن واحدة، فهل ستكون أفضل؟ وإن كانت أفضل في نظر البعض، فهل هذا يعني أن ما سيترتب عليه هو الخير؟
إن الحكمة الإلهية توجب علينا احترام أخطائنا التي ارتكبناها، وأن نتعامل معها بموجب الإصلاح، وليس الاستئصال، وإلا لما كان العالم بهذا الشكل الجميل، نعم! “بهذا الشكل الجميل”… لماذا ننظر دائماً إلى الجانب السيئ؟
يا سيدي انظر عن يمينك، هذا رجل اضطر لبيع شركته بسبب خطأ بسيط ارتكبه في الماضي، ماذا لو عاد بالزمان؛ ليمنع حدوث هذا الخطأ؟ بالتأكيد سيخسر يوماً ما، ويضطر لبيع شركته، فهذا أمرٌ وارد الحدوث، لكنه سيحتاج في النهاية إلى تصحيح الخطأ بالسعي والعمل؛ ليجمع المال من جديد، ويستعيد ملكيته في الشركة.
انظر عن يسارك هذا حيوانٌ منقرض، ماذا لو منعنا انقراضه؟ كان عدوه البيئي الموجود حالياً -وهو حيوان آخر مفيد لنا- غير موجود.
نحن بشر، نخطئ، ونصيب، وهذا أجمل ما فينا، لو أن كلَّ إنسانٍ حاول استئصالَ كل شيء، فهذا يعني أننا لن نعيشَ الحياة بمعناها الفلسفي الذي نعيشه الآن.
نعم، هناك حروب ودمار، فلماذا لا نمتلك إرادة الإصلاح والبناء والتشييد؟
قالوا “الشجاع من يعترف بالخطأ، والقوي من يصلح الخطأ، والحكيم من لا يقع في الخطأ”.
“الحكيم”… اسم من أسماء اللّٰه الحسنى، وهذا المثل أعلاه لا ينطبق شقه الأخير على حياتنا كبشر، لقد ارتكبنا من الأخطاء ما يكفي لإسقاط أقوى الحصون كطروادة، وذبح ٧٠ ألف إنسان في بغداد على يد التتار…إلخ من الأخطاء البشرية الكبرى، وعلى الرغم من ذلك امتلكنا من إرادة الإصلاح ما يكفي؛ لنستمر، ونعيش في هذا العالم بمعناه المتطور الحالي.
يا عزيزي، كل ما أستطيع قوله أنه يتوجب علينا تقبل الأخطاء بكل أنواعها، ونصححها بالإرادة، والاستمرار، لا التراجع إلى الخلف بنية الاستئصال، وطمعاً في الحصول على كل شيء، فنكتشف في النهاية أننا خسرنا “كل شيء”.