قراءة في مجموعة ” فستان فضي لامع” للكاتبة وداد معروف
د. عبد الغفار محمد
عضو هيئة تدريس بكلية دار العلوم
تُرى من أي شيء تُحس بجمال السرد القصصي لدى الكاتبة وداد معروف؟ ، هل اللغة السهلة الرقيقة ؟ ربما ، هل الترتيب الذي ينساب بك من أول القصة إلى آخرها ؟ قد يكون . هل هو السبك الرائع والترابط المنطقي ؟.. هل …؟
فلندخل إذن إلى هذا العالم السردي الماثل أمامنا على صفحات القصة القصيرة ” فستان فضي لامع ” لنقرأه ونُعمل فكرنا في بنائه ونفحص لبناته لنقف على الأسباب الموضوعية النابعة من البناء القصصي التي تجعل المتلقي لأدب وداد معروف منجذبا إليه ، يدرك قيمته على وجه الحقيقة ويبحث في كيفية نسجه ليستمتع أكثر بجمال التشكيل اللغوي لهذه القصة.
إن القصة تحكي عن زوج هو مازن ، وزوجته التي لم يرد اسمها في القصة ، وأبناؤهما ( مراد ومنار ) ، والمشهد الذي تسلط الكاتبة عدستها عليه هو وقت إعداد المائدة للاحتفال بعيد ميلاد الأبناء ، والزوج مازن شعلة نشاط يُعد كل شيء ، ولا يُرهق زوجته ، في حضور العائلة من أب وأم وأعمام وأخوال .. إلخ. وكان مرحا ودودا مع الجميع ، ذهب بعدها بأسرته لقضاء إجازة قصيرة على الشاطئ ، سافر بعد ذلك تاركا أسرته وهو في حالة من الانقباض والأسى لا توصف ، وساءت حالته النفسية في غربته ، فلم يعد إلى سيرته الأولى من المرح والضحك مع رفقائه ، كان كئيبا حزينا ، وفجأة مات بعد أسبوع من سفره.
تأتي هذه القصة بعنوان ” فستان فضي لامع ” ومن المعروف أن مثل هذا النوع من ملابس المرأة يحمل بريقا يتماشى مع المناسبات ، تبدو فيه المرأة وكأنها تعلن عن أناقتها وتميزها وسعادتها وحسن اختيارها لما ترتديه ، واللون الفضي لون هادئ قد يكون إشارة إلى شيء من ضبابية الحياة ، إذ يلتقي مع لون السماء في آخر النهار أو أوله ، وكأن شيئا يولد من رحم شيء آخر ، أو أن هناك غروبا لحال معينة وشروقا لأخرى ( كغروب الشمس بنورها وإقبال الليل بظلامه وسدوله) في مدة زمنية قصيرة جدا ، أو قد يكون هذا اللون رمزا يشير إلى الهدوء الذي يسبق العاصفة ، أو لِقِصَرِ فترة الأفراح مقارنة بفترات الأتراح.
” وقفت زوجته بجانبه بفستانها الفضي اللامع وقد أشرق وجهها بضحكة صافية ، همست تشكره علي كونه لم يرهقها في صنع أي شيء لهذا اليوم ؛ بعدما أصر علي أن يأتي بلوازم عيد الميلاد جميعها من الخارج، فحالتهم المادية تحسنت قليلا بعدما انتهى من سداد ديون سفره وحصوله علي ترقية، سيقبض أول راتب يشمل علاوتها بعد عودته لعمله ”
تشير الكاتبة في هذا الاقتباس إلى المودة والرحمة التى تغشى هذا البيت الصغير ، فالزوجة تقف واثقة بنفسها كأنها ملكة متوجة ، مرتدية فستانها الفضي اللامع ، تعلو وجهَها الوضاءة ، تضحك ضحكات صافية ، فزوجها قام بإعداد كل شيء ، إذ إن هناك سدادا للديون المستحقة عليه ، وتحسنا في وضعه الوظيفي ، سيجني ثمرته بعد سفره ، وهذا هو جانب الأمل ومحل الترحيب منهما ، ومظهرتحقق السعادة لغةً هو في كثرة استخدام الفعل الماضي (وقفت – أشرق – همست – أصر – تحسنت – انتهى) ، وهناك ترقب وتطلع لخير قادم في المستقبل بعد سفره تمثل في حرف السين الداخل على الفعل المضارع ” سيقبض أول راتب يشمل علاوتها بعد عودته لعمله “.
وكأن هذا الزوج ” مازن ” المُحِب لأسرته شعلة من النشاط ، لا ينسى اللمسات الجميلة المُفرحة للجميع ، ومنها ؛ أنه ” اطمأن علي وضع سبع شمعات هي عمر مراد في تورتة الشيكولا الفرنسية، وفي تورتة الفانيليا بالفواكه والكريمة وضع خمس شمعات هي عمر منار، وترك الثالثة بلا شمع “.
ولكن يا تُرى ما سر اختيار الكاتبة لاسم ” مازن ” لتطلقه على الزوج ، وليس اسما آخر ؟ ، فقد تبادر إلى ذهني أن وراء هذا الاسم دلالة تجمع ما تشتت من صفاته المبثوثة عبر في عبارات هذه القصة القصيرة ، فقمت إلى قاموس لسان العرب مادة ” مزن ” لأستجلي الأمر ، وليُلقِ القارئ الكريم أذنه وقلبه لما جاء في معناها تفضلا ، قال ابن منظور : ” المُزْن: الإسراع في طلب الحاجة … وتمزَّن: مضى لوجهه وذهب. ويقال : هذا يومُ مزْنٍ إذا كان يوم فرار من العدو … التمزُّن التَّظرُّف … قال أبو منصور: التمزُّن عندي ههنا تَفَعُّلٌ من مَزَنَ في الأرض إذا ذهب فيها …. وتمزَّنَ على أصحابه : تفضَّل وأظْهَر أكثر مما عنده …. ومزَنه مزْنًا: مدحه “.
ومما ذكره صاحب اللسان نخلص إلى أن ” مازن ” تعني :
الإسراع في طلب الحاجة ، ومنها ( لوازم عيد الميلاد – الفستان – الشمع – التورتات – دعوة الأهل والأقارب – الرحلة الشاطئية القصيرة – الإعداد للسفر .. إلخ).
مضى لوجهه وذهب ، وهذا واضح في سفره للعمل خارج وطنه من أجل أن يحيى حياة طيبة مع أسرته.
ويقال : هذا يومُ مزْنٍ إذا كان يوم فرار من العدو ، وهل هناك عدو أشنع من الفقر ، الذي يفر منه المرء طالبا لنفسه ولأسرته طيب العيش ، ولا عجب أن يكثر النبي صلى الله عليه وسلم من الاستعاذة من الفقر صباح مساء ، فهو الموصِّل إلى الجوع ، والجوع بئس الضجيع.
التمزُّن التَّظرُّف ، وهذا واضح في شخصيته المرحة فقد ” كانت ضحكات مازن تعطر الأجواء، لم يكف عن التصوير ولا القفشات، طالت السهرة ولم يفكر أحد في المغادرة، روحه العذبة أبهجت المكان ” … ” مر الأسبوع الأول كئيبا، لم تنشق شفتاه عن ابتسامة، لاحظ زملاؤه شروده وتغير مزاجه المتفائل وتوقفه عن القفشات المدهشة التي عُرف بها، حاولوا كثيرا إخراجه من هذه الحالة الطارئة عليه “.
والمُزن : السحاب عامَّة ، وقيل : السحاب ذو الماء .. قال ابن الأثير : المُزن وهو الغيم والسحاب ، واحدته مُزنة ، ألا ترى كرم هذا الرجل في فعاله مع زوجته وأبنائه وأبويه ، وكذلك أعمامه وأخواله ، كيف يبدي للجميع المودة ، كأنه الغيث أينما وقع نفع. ولكن أل تتفق معي أيها القارئ الكريم على أن السحابة عمرها قصير ، ودائمة التنقل وتسافر من مكان إلى آخر على بعد ما بينهما !.
وكذلك اختيار اسم الابن ” مراد ” له في نظري دلالة ألا وهي أنه مراد له في نفسه أن يكبر وأن يشب ويجد ما يسعده من إمكانات تحجزه عن الفقر والعوز ، وألا يتعب تعبا شديدا كما حدث ويحدث لأبيه ، وأن يكون قرة عين لأبويه ، معينا لهما في قابل أيامهما.
وهل تظن أيها القارئ الكريم أننا سنهمل البحث أيضا عن سر اختيار اسم الابنة ” منار” ، إنها بنت ، والبنات مصابيح البيوت ، لهن ضياء لا يغني عنه غيره ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تكرهوا البنات فإنهن المؤنسات الغاليات ) ، فالبنت أُنس لأبيها وأمها بضعة منهما ، تشبه المنار الذي يهدي السفن في ظلمات البحار وقد غشيها الموج كأنه السحاب. ضعفها سر قوتها ، ودلُّها زيادة حُسن فيها ، رقيقة الطبع ، مرهفة الحس.
أجادت وداد معروف الانتقال من جو المرح والفرح القصير بكل مظاهره ( الفستان الفضي اللامع يُلبس لوقت قصير ، والتورتة بأنواعها وقتها قصير ولا مكان لها إلا في أوقات الاحتفالات ودورها أن تُقطع وتُوزَّع وكأن مازن كان حاله كحال التورتة لا يستمتع به أهله وأصحابه إلا إذا تقطع بينهم جميعا وكل منهم ينتفع منه بالجزء الذي يروقه ، والشموع تضاء ثم تطفأ في وقت قصير ، الرحلة الشاطئية مدتها يومان فقط بعدهما السفر) وأحسنت التخلص من رسم حال الفرح القصير إلى رسم حال مناقضة تماما لها وهو حال الاكتئاب والانقباض والتوتر ، ولعلها بإشارتها إلى انتشار روحه العذبة التي أبهجت المكان ، كانت تمهد الطريق لحديث مدابر تماما عن هذه الروح ، فبعد أن كانت بداخل الجسد ، خرجت منه ولم تعد ، وإرهاصات التحول جاءت في عبارات الكاتبة تمهيدا رائعا للنهاية المُحزنة والفاجعة المؤلمة للجميع ” كانت ضحكات مازن تعطر الأجواء، لم يكف عن التصوير ولا القفشات، طالت السهرة ولم يفكر أحد في المغادرة، روحه العذبة أبهجت المكان، لم يتبق من إجازته إلا يومان، خصهما في جدول الإجازة برحلة شاطئية، بعدها يكون السفر الذي كلما تذكره انقبض قلبه وضاقت نفسه، لا يحب لحظات الوداع ” ، ثم زادت الكاتبة في تعميق الصراع النفسي لدي الشخصية الرئيسية ” مازن ” فطاردته بعدستها المصورة من الداخل ” عاد لغرفته الباردة ولعمله الصباحي ودوامه المسائي كي يستطيع أن يفي بمسئولياته، مر الأسبوع الأول كئيبا، لم تنشق شفتاه عن ابتسامة، لاحظ زملاؤه شروده وتغير مزاجه المتفائل وتوقفه عن القفشات المدهشة التي عُرف بها، حاولوا كثيرا إخراجه من هذه الحالة الطارئة عليه، يرد على محاولاتهم دائما بتلك العبارة ” حتما سأكون أفضل بعد أيام قليلة “.
تُرى هل كان مازن حقا يُحس بأنه على أعتاب نهاية عمره ؟ وما الأيام التي يقصدها بالأفضلية ، إنها أيام الدنو من انقضاء رحلة العمر ، وبذا نتيقن أن أديبتنا وداد معروف كانت تستشرف مستقبل بطل القصة بتصوير ذهوله وشروده وانقلاب مزاجه بوجه عام ” وبعد الأيام القليلة طار الخبر إلي هناك، البقاء لله مات مازن إثر حادث أليم” .