في زمان الكورونا وفي الحجر الصحيّ المفروض تغيَّر كثيرٌ من عاداتنا على كافة الصُّعُد والمستويات، فلا يتصافحُ الناسُ ولا يتعانقون، وأُلْغيَتْ مظاهر الاحتفال في الأفراح، ومجالسُ العزاء في الأتراح، ولم يَعُدْ شبابُنا العربيُّ يلتقي في المقاهي والمطاعم، وتوقَّفَتْ مشاهدُ التَّرَف، والتباهي بالسيارات والموبايلات، والأصدقاء والصديقات، وانكبَّ الناسُ على ضروريات الحياة من الطعام والغذاء، وتَجَمَّعُوا في البيوت حول الشاشات، يراقبون النتائج والأحوال والإشارات، ويحلِّلون القادم الجديد بين متشائمٍ ومتفائل، وبين هذا وذاك لا ننكرُ الهدرَ الكبير للأوقات فيما لا ينفع الأمة والشبابَ .
وإني أرى: أنه يمكن للشباب أن يقلب هذه الأزمة إلى فرصة، وأن يستثمر الأوقات في الاستزادة من العلم والمعرفة والثقافة، وأن يترك ملاحقة الأخبار هنا وهناك على المحطات الفضائية، وكما أشار بعضُ علماء النفس أن يُكتَفَى بمشاهدة الأخبار عشر دقائق صباحاً وعشر دقائق مساءً.
والأهمُّ من ذلك – من وجهة نظري – تغييرُ العادات، أن يبدأوا بتشكيل عاداتٍ إيجابيةٍ جديدة، تَحْمِلُهُم على سلوكٍ جديدٍ يبدأ صغيراً وينتهي بتغيير حياتهم كلها نحو الأفضل، فالأمةُ العربيةُ اليومَ بحاجةٍ إلى العلم، إلى الإبداع، إلى هِمَّةِ الشباب، إلى التغيير، إلى مواكبة التطوُّر الهائل، لتستطيع إعادةَ صياغةِ بناءِ هذه الأمة، وخصوصاً في التاريخ الحديث والعصر الحاضر.
والعاداتُ السلبيةُ التي نشأ عليها كثيرٌ من الشباب العربي ليسَتْ صالحةً من وجهة نظري- في زمننا هذا- للارتقاء بأمتنا العربية إلى مصافّ الأمم الحضارية، فلم تكن إضاعةُ الأوقات يوماً عاملاً في بناء أيِّ أمة، وليس الاجتماعُ في المقاهي والمطاعم والمراكز التجارية والترفيهية ، ولعبُ الورق وطاولة الزهر، وقتلُ الوقت بمتابعة وسائل التواصل الاجتماعي لساعاتٍ طويلة، كل ُّذلك – وغيرُهُ كثيرٌ – لا يساهمُ في عمليةِ إنقاذٍ حقيقيةٍ يحتاجُ إليها الشبابُ العربيُّ اليوم.
وقد اطَّلعتُ مؤخَّراً على كتابٍ هامٍّ ومفيدٍ أحبُّ أن أشارك فيه شبابَ الوطن العربيّ، وهذا الكتابُ اسمُهُ: “العاداتُ الذَّرِّيَّة” للمؤلف الأمريكي “جيمس كلير” والذي أدعو الشباب أن يطالعوه خلال هذه الإجازة.
ومعنى عنوانِ الكتاب: ((العاداتُ البسيطةُ الصغيرةُ التي يمكن من خلالها أن يتخلَّصَ الإنسانُ من عاداتٍ سلبية ومستحكمةٍ، وأن يبني عاداتٍ جيدة تغيِّرُ من شخصيته وهُويَّته على المدى البعيد))، إنها إذّنْ منهجٌ سهلٌ لبناء عادات جيدة، والتخلُّص من العادات السلبية.
وتنبُعُ أهميةُ هذا الكتاب من كونه دليلاً تشغيليّاً عملياً يمكن من خلاله أن تكوِّنَ شخصيةً جديدةً لنفسك، وليس ورقةً بحثيةً نظريةً غيرَ قابلةٍ للتطبيق، أضف إلى ذلك أنَّ مؤلف الكتاب ذَكَرَ تجربته الشخصية عبرَ محنةٍ تعرَّضَ لها من خلال إصابةٍ أدَّتْ إلى تهشُّمِ أنفه، وكُسُورٍ عديدةٍ في جُمْجُمتِه، وتهشُّم محجر عَيْنه، استغرق شفاؤه منها عاماً كاملاً كان مليئاً بالارتباك والإحباط، ولكنَّه استطاع بقوة الإرادة والتدريب أن يتجاوز ذلك.
الأمرُ الذي يجعل من هذا الكتاب تجربةً عمليةً لإنسانٍ عانى طويلاً، يبيِّنُ من خلاله كيف استطاع الخروج من هذه الأزمة، والمضيَّ قُدُماً نحو النجاح المبهر، حتى استطاع تأسيس “أكاديمية العادات” عام 2017، والتي صارَتْ منصَّة التدريب الرئيسة للمؤسسات والأفراد لبناءِ عاداتٍ أفضل في الحياة والعمل.
وبدأَتْ أهمُّ الشركات العالمية تُلْحِقُ قادتَها بهذه الأكاديمية للتدريب، وتخرَّج منها أكثر من عشرة آلاف من القادة والمديرين.
ويرتكزُ الكتابُ على أسئلةٍ هامَّةٍ تراود تفكيرَ كلِّ واحدٍ منّا، ويجيبُ عنها من منظورٍ عمليٍّ سُلُوكيٍّ.
ومن هذه الأسئلة على سبيل المثال لا الحصر: لماذا تؤدي التغييراتُ البسيطةُ إلى اختلافات كبيرة في الشخصية؟ ولماذا تُحقِّق فارقاً كبيراً مع أنها تبدو تغييرات صغيرة في عاداتنا اليومية؟ وكيف يمكن للعادات أن تشكِّل هويةَ الإنسانِ وشخصيتَهُ؟ وكيف يمكننا أن نبني عاداتٍ أفضل ونتخلَّصَ من العادات السلبية؟ وما هي الطريقةُ المثلى لذلك؟ وما الفارقُ بين الأنظمة اليومية التي نتبعها والتي نسمِّيها عادات وبين الأهداف التي وضعناها في حياتنا، ونكرّس إمكانيّاتنا لتحقيقها؟ وكثيراً ما نعزِمُ على أمرٍ لنفعله، ولكن سرعانَ ما يتبدَّدُ هذا العزمُ وتضعُفُ الهمةُ وتتلاشى القوةُ والإرادةُ، فما هو سرُّ ضبطِ النفس؟ وما دورُ الأسرة والأصدقاء في تشكيل العادات؟ وكيف يمكن لأحدنا أن يكتشف العادات السلبية؟ وكيف يتمكَّن من إصلاحها؟ ومتى نستطيع التخلُّصَ من التسويف والتأجيل؟ وكيف نجعلُ العاداتِ الحسنةَ حتميَّةً؟ والعاداتِ السلبية مستحيلةً؟ وكيف نحافظُ على الاندفاع والنظام في الحياة والعمل؟
إنها أسئلةٌ – لا شكَّ – تجولُ في خاطرِ كلِّ شابٍّ من شباب الوطن العربيّ، ولكن لا يكفي أن نشعر بالنقص، بل يجب أن نعالج هذا النقص، ولا يكفي أن نقرَّ بالخطأ، بل الصوابُ أن نقلع عنه، ونبدأ بالتوجُّه الصحيح نحو الإيجابية.
والرؤيةُ الصحيحةُ تبيِّنُ: أنَّ العنصرَ الأهمَّ هو التركيزُ على نظامنا اليومي من العادات، وليس التركيز على الأهداف التي نضعها لحياتنا فقط، فالأهدافُ مفيدةٌ في تحديد الاتجاه، ولكن الأنظمة والعادات اليومية التي تشكِّلُ نظامَ حياتك هي التي تحقِّقُ هذا التقدُّمَ نحو الأهداف، فإذا أردْتَ الحصولَ على نتائج أفضل فعليك أن تركّز على نظامك وعاداتك اليومية التي تجعلُ منك إنساناً منضبطاً سيتمكَّن من تحقيق أهدافه، فالرابحونَ والخاسرون لهم نفسُ الأهداف في أيِّ ميدانٍ يتسابقون فيه على كافة الصُّعُد، ولكن ما يحدِثُ الفارق بين الرابح والخاسر هو تطبيقُ نظامٍ من التحسينات الصغيرة المتواصلة التي تغيّر من سلوك الإنسان على المدى الطويل إلى أن تصل به إلى تغيير شخصيته وسلوكه، فيتمكَّن معها من الفوز.
فجَوْدَةُ حياتنا في الأساس تعتمدُ على جودة عاداتنا، وأقوى النتائج هي تلك التي تأتي من خلال عمليةٍ تراكميةٍ متأنيةٍ توصلك إلى أهدافك، وأضعفُ النتائج هي التي تحدُثُ فجأةً نتيجة الحظّ، ولا يمكن أن نضمن استمرارها.
ولا تنسَ أَّن الإتقانَ يتطلَّبُ صبراً، وأنَّ كلَّ نظامٍ من الأفعال والعادات اليومية يوجد خلفه نظامٌ من المعتقدات، فإذا لم تكن هذه التغييراتُ نحو الأفضل جزءاً من تفكيرك وعقيدةً راسخةً في عقلك فلن تتمكَّن من التغيير، وكلَّما زاد عمقُ ارتباطك بالفكرة وترجمته سلوكاً في عاداتك اليومية صار من الصَّعب أن تعود للوراء إلى عاداتك السيئة.
وعلينا نحنُ جميعاً أن نعلم أنَّ عمليةَ بناءِ العادات هي في الحقيقة عمليةٌ لبناء الذات والشخصية، فلا يجوز أن نتساهل أبداً في بناء عاداتنا الإيجابية.
وربَّما يجدُ بعضُ الشباب أنَّ إقلاعهم عن العادات السلبية وبناءَ عاداتٍ جيدةٍ جديدةٍ هي تقييدٌ لحريَّتهم، وهذا أمرٌ خاطئ، فالعاداتُ لا تقيِّدُ الحرية، بل تخلُقُ الحرية، فالأشخاصُ الذين لا يحسنون التعامل مع عاداتهم ولا يَسْعَون بشكلٍ دائمٍ إلى التغيير هم أقلُّ الأشخاصِ حريةً؛ لأنه بذلك يظهرُ ضعفُ إرادتهم، ويتبيَّن أنهم مجرد أسرى لعاداتهم السيئة القديمة.
وما نحنُ فيه اليوم من الحجر الصحيّ في زمن الكورونا فرصةٌ ذهبيةٌ لكلِّ الشباب ليعيدوا ترتيب حياتهم، ومن ذلك الصداقات والرفاق، والبيئة المحيطة بنا، فالبيئةُ هي اليدُ الخفيةُ التي تشكِّلُ السلوك الإنسانيّ، فاستغنِ عن الأصدقاء الذين لا يشكِّلون بالنسبة لك عاملَ تغييرٍ مهمٍ في حياتك، وكلُّ ما في الأمر أنهم للتسلية وإضاعة الأوقات، أو حاول أن تجذبهم إليك وأن تؤثّر فيهم وأن تنهض بحالهم.
وابحث عن أصدقاء تزداد بصحبتهم معرفةً وثقافةً وإبداعاً، ابحث عن الأشخاص الناجحين الذين تجدُ عندهم ما يحفِّزك نحو الأفضل دائماً.
وانتبه إلى عادات المجتمع السائدة وإياك أن تنجرف معها، فهناك الكثير من العادات السلبية التي نشأنا عليها بفعل العَقْل الجَمْعيّ، وعلى مرّ السنوات لم نجد فيها ما يمكننا أن نستفيد منه في بناء الشخصية أو المجتمع، بل على العكس نشاهد أنَّ هؤلاء الذين نبذوا العادات المجتمعية السائدة التي لا فائدة فيها، وخَطُّوا لأنفسهم منهجاً جديداً في الحياة هم الذين كان لهم الأثر الكبير في الشهرة ونهضة المجتمع والأمة.
وفي طريقك هذا لا تكترث لما يظنُّه أو يقوله الآخرون فيك، بل يجب أن تهتمَّ بما تريد تحقيقه، وفي النهاية سوف تكون أنت الرابح، وستجد الآخرين يتبعون خُطَاك.
ولا أقول: إنَّ التغيير عمليةٌ سهلةٌ، فالسلوكُ البشريُّ يَتبع دائماً قانون “الجهد الأقل”، فنحن ننجذبُ تلقائياً إلى الخيار الذي يتطَلَّبُ القَدْر الأقلَّ من الجهد والعمل، هذه هي الطبيعةُ البشرية، ولكن انظر أيضاً إلى الشخصيات البارزة والمفكرين العظماء الذين غيَّروا العالم، وتركوا بصمةً استفادَتْ منها البشريةُ كلُّها، لو أنهم وقفوا في مكانهم واتَّبعوا قانون “الجهد الأقل” وأرخوا العنان لأنفسهم بفعل كل العادات السلبية التي نشأوا عليها ولم يحرزوا تقدُّماً لما صاروا عظماء ومفكرين.
وأجملُ شعورٍ يمكن أن تعيشَ معه هو شعورُك بتحقيق التقدُّم، والتهديدُ الأكبرُ للنجاح ليس هو الفشل بل الملل، فالمحترفون يتمسَّكُون بروتينهم اليوميّ الذي تعبوا في بناء عاداتهم الإيجابية عليه، بينما الهواةُ فقط هم الذين يشعرون بالملل ويسمحون لتقلبات الحياة أن تمنعهم من الاستمرار.
وأخيراً: أرجو أن أكون قد وضعْتُ إضاءاتٍ للشباب العربي عن هذا الكتاب تكون عاملاً قوياً في بناء عاداتٍ إيجابيةٍ جيدةٍ، تساعدهم على النهوض بفكرهم والنهوض بالمجتمع، فالبعضُ ينظرُ إلى أزمةِ “كورونا” نظرةً سلبيةً في كافَّةِ المجالات، ولكنَّ العاقل هو الذي يستخرج الأملَ من الأزمات، ويخلق من المحن فرصاً جديدةً.