كيف تعزز مناعتك النفسية؟
كتب/ اشرف زيدان
خلق الله الإنسان جسدًا ونفْسًا ورُوحًا، ووهب الله الإنسان القدرةَ على اكتشاف جسده ونفسه، ودراسة ما يُلِم بهما من أمراض وتوعكات وأزمات، ومنَحه الدواء، فما خلق الله من داء إلا وخلق له دواء، ومن ذلك أمراض الجسد وأمراض النفس، أما الرُّوح، فقد اختص الخالق – عز وجل – معرفتها لنفسه؛ فقال في كتابه العزيز: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]، ويقتضي الإيمان ترْك الروح وأمرِها بمجمله وتسليمه لخالقه، هو أعلم بما يختص بها ويَصِلها من قريب أو بعيد، وبقي للإنسان أن يدرس ويتبصَّر في أحوال جسده ونفسه، وتَكثُر المقالات وتتنوَّع في هذا الموضوع، ويميل الأغلبية لتطبيق ما يَرِد حول الصحة البدنية والعناية بها، وتَمُر أعينهم على ما يَخُص الصحة النفسية، وقد لا يتعدى الأمر جولة للعين فقط، وعلى كل حال تبدو ثقافتنا قاصرة جدًّا فيما يتعلَّق بالصحة النفسية فَهمًا وإدراكًا وعناية.
ولمنظمة الصحة العالمية World Health Organization WHO تعريف ممتاز فيما يتعلَّق بالصحة بشكل عام، ويَنُص تعريف المنظمة على أن: الصحة هي حالة من اكتمال السلامة بدنيًّا وعقليًّا واجتماعيًّا، لا مجرد انعدام المرض أو العجز، وتعتبر المنظمة الصحةَ النفسية جزءًا لا يتجزَّأ من الصحة العامة، فإن لم تتمتَّع بالصحة النفسية، فحالتك الصحية العامة ليست على ما يرام في هذه الحالة، وهذا يعني أن الصحة العامة تتطلَّب: جسدًا سليمًا، وعقلاً سليمًا، ووِجدانًا سليمًا، فلا يكفي إذًا المَثل القديم: “العقل السليم في الجسم السليم”؛ وإنما نحتاج لتعديل أفكارنا لنُضيف إليه ما يجعل الوِجدان مكوِّنًا لا يَقِل أهمية عن العقل، وكلاهما بحاجة لجسد سليم، وأنت تُقدِّر أهمية الوجدان السليم عندما تنظر لشخص ذي ذكاء مرتفع يُعاني من حالة إحباط أو مشكلة نفسيَّة، أو يقع فريسة للانهيار العصبي، فقد لا يُسعِفه ذكاؤه أو يُجنِّبه مخاطر الاضطرابات النفسية، فلا يكفي عقل سليم وجسم سليم كي تحيا حياة صحية.
والصحة النفسية:
هي حالة شبه مستقرَّة، يكون فيها الفرد متوافِقًا نفسيًّا واجتماعيًّا مع نفسه ومع بيئته، ويشعر فيها بالسعادة مع نفسه ومع الآخرين، ويكون قادرًا على تحقيق ذاته واستغلال قدراته وإمكانياته إلى أقصى حد ممكن، ويكون قادرًا على مواجهة مطالب الحياة، وهناك علاقة طرديَّة بين الصحة النفسية وتقدير الذات؛ فالصحة النفسية تعني أن الشخص يتمتَّع بقدر كافٍ من تقدير الذات واحترامها، وهذا التقدير بدوره يزيد من صحة الفرد؛ مما ينعكس على تقدير الذات وهكذا، فتبدو السعادة هنا وكأنها عملية دائمة ومستمرة، غير أن تجارِب الحياة تُظهِر الأمر بصورة مختلفة، وكثيرًا ما يَفقد الواحد منا شعوره بالسعادة، وهذا يعني حدوث اعتلال في صحته النفسية.
وكما يمكن وصف الشخص الذي يتمتَّع بجسم سليم بصفات ظاهرية وداخلية، والكشف عن ذلك بالفحوص والتحاليل الطبية، فالأمر ذاته يَسرِي على الصحة النفسية، ومن هنا يمكن أن نَصِف الشخص الصحيح نفسيًّا بأنه في الغالب يتمتع بالشعور بالسعادة الداخلية والاكتفاء النفسي، وتراه يحمل هدفًا يسعى لتحقيقه، وحياته في نظره ذات قيمة، وهو مُقدِّر لإمكانياته وطاقاته، ولا يتوقَّع من ذاته تحقيق ما هو فوق طاقتها، وهو ذو شخصية قادرة على التطور والنمو، فلا يثبت على حال لشهور طويلة، بل هو دائم التجدد والتطور باكتساب المعارف والخبرات وخوض التجارِب، وفوق ما سبق هو ذو عالَم داخلي هادئ بلا صراعات، ولديه القدرة على التعبير عن مشاعره وضبْط مشاعره السلبية أيضًا كالقلق والإحباط، أما عن مظاهره الخارجية، فتتمثَّل في القدرة على العمل بكفاءة وإنتاجية، وتكوين علاقات دافئة مع الآخرين، يَملِك قدرًا كبيرًا من السيطرة على البيئة المحيطة به وباستطاعته اتخاذ قراراته بمفرده، مُقدِّر جيد لمشاعر الآخرين واحتياجاتهم، بالطبع تبدو الصفات السابقة مثالية لدرجة كبيرة، ولكن درجة الصحة النفسية تعتمد على ما تستطيع تحصيله منها، أو بقول آخر: هي مجموع نِسَب ما تُحرِزه من نجاح في كل صفة من الصفات السابقة.
والصحة النفسية كالبدنية تتأثَّر بعوامل عديدة اجتماعية ونفسية وبيلوجية، وتختلف باختلاف المرحلة العمرية والظروف، وقد تتحسَّن صحة الفرد النفسية في فترة معينة، ثم تتوعَّك قليلاً، ثم تتعافى وهكذا، وما يؤدي إلى تعافيها من جديد هو مدى وعي الشخص وثقافته، فأنت بالطبع تعرف أعراض التعب والاعتلال البدني؛ كالإجهاد وارتفاع الحرارة أو ارتفاع ضغط الدم أو انخفاضه وهكذا، ولكن هل تعرف حقًّا أعراض الاعتلال النفسي؟
إن عدم قدرتك على الشعور بالسعادة والتوافق مع ذاتك أو مع الآخرين – يُعَد عَرَضًا من أعراض الاعتلال النفسي، ولا يعني ذلك المرض النفسي الذي يستدعي التدخل والمساعدة الطبية لعلاجه، وإن كان العلاج النفسي حقًّا لا غبار عليه، بل هو لدى العقول والثقافات المتفتحة ليس إلا تدليلاً للنفس ومزيدًا من العناية بها، على كلٍّ بجانب عدم قدرتك على الشعور بالسعادة أو التوافق هناك عدم القدرة على التركيز، النسيان وصعوبة الحفظ والتذكر – إذا لم تكن تعاني من ضعف الذاكرة بشكل عام – الشعور بالتعب السريع، الملل، فِقدان الرغبة بالعمل، الميل للانعزال، الحساسيَّة المُفرِطة، انخفاض كفاءتك أو إنتاجيتك في العمل، عدم القدرة على تكوين علاقات اجتماعية دافئة مع الآخرين، كل تلك مظاهرُ للاعتلال النفسي، وهو اعتلال طبيعي ولا يدعو للقلق، بل يتطلَّب قدرًا كافيًا من الوعي والسعي للعلاج والتعافي السريع؛ حتى لا تتفاقم الأمور مع مرور الزمن لتَجِد نفسك ذات يوم مصابًا بالاكتئاب مثلاً.
من أشهر الاضطرابات النفسية التي تعتري صحةَ الإنسان النفسية من حين لآخر: اضطراباتُ الضغط النفسي، والضغط النفسي هو حالة بدنية وشعورية تنتاب البشر جميعًا وفي جميع الأعمار، يختبرها الشخص عندما يشعر بوجود خطر يُهدِّد أمنه أو استقراره أو وجوده المادي أو الاجتماعي، أو كون هذا الخطر يُهدِّد مَن تَربِطه به علاقات أسرية أو عاطفية، فعندما تَفقِد عملك تعاني من ضغط نفسي؛ نتيجة تهديد استقرارك وأمنك المادي، وعندما يُصاب طفلك بالمرض تتعرَّض للضغط؛ نتيجة شعورك بخطر يُهدِّد طفلك الذي تربِطك به علاقة عاطفية وطيدة، وعندما يتهيأ الطالب للامتحان يتعرَّض لضغط؛ نتيجة وعيه بكون الامتحان عاملاً يُهدِّد مستقبله الدراسي وهكذا، وعلى هذا النحو تبدو الضغوط كظواهر طبيعية جدًّا من الضروري – بل والحتمي – أن يتعرَّض لها الواحد منا؛ ولهذا يتحدَّث عنها هانس سيلي بقوله: الضغط النفسي هو رد فعل الإنسان على التغيرات التي هي جزء من حياته اليومية، ويبدو هذا قولاً واقعيًّا جدًّا، إلا أن رد الفعل ذاك تُجاه متغيرات الحياة يختلف من شخص لآخر، تَبعًا لمستوى صحته النفسية والعقلية وخبراته وتجارِبه السابقة؛ ولأجل هذا يَبرُز عامل السن بوضوح، حيث تَجد ردَّ فعل الشاب يختلف كثيرًا عن الرجل الناضج مثلاً، كما يبدو أن لعامل الجنس دورًا أيضًا، فرد فعل السيدات يختلف عن الرجال وإن تشابهت المواقف.
وبما أن مستوى الصحة النفسية له دوره في تشكيل رد الفعل تُجاه متغيرات الحياة، وبالتالي في مواجهة الضغوط وشدتها، فهذا يعني أن الأشخاص الأصحاء نفسيًّا سيكونون أقدر من غيرهم على مواجهة الضغوط والتعافي منها سريعًا، فكلما كنت متوافقًا مع نفسك ومقدرًا لها سيكون بإمكانك تَجاوُز تلك الضغوط بأقل خسائر، أما الأشخاص المتوعكون نفسيًّا، فسيكون وقْع الضغوط عليهم شديدًا، وربما أدى ذلك إلى تدهور حالتهم النفسية، وهكذا هم من سيئ لأسوأ، كمن يعاني من الأنيميا ثم يصاب بنوبة زكام حادة ثم بنزلة معوية وهكذا، ولو أن بِنيته الجسدية أفضل لتغلَّب على نوبة الزكام سريعًا قبل أن تُهاجِمه النزلة المعوية مثلاً ولخفت وطأة الأخيرة عليه.
وبما أن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، وهي مُتغيِّر من حين إلى حين، وبما أن درجة تحكُّم الإنسان وسيطرته على الحياة من حوله محدودة، فإن تَعرُّضه للضغوط يبدو حتميًّا، ومع ذلك فبعض الضغوط ذات أثر إيجابي في تقوية الفرد وإكسابه الخبرة، كما أنها تعمل عمل المحفِّز، ومن ذلك الضغط الناشئ لدى الطالب من مواجهة الامتحان مثلاً، مما يدفع الطالب للمزيد من الاستذكار وبذل الجهد، ومع ذلك يبدو أن الطالب المتفوق سيحظى بتأثير المحفِّز، خاصة إذا كان يتمتَّع بدرجة عالية من الثقة بالنفس والسيطرة على ما يتوجَّب عليه دراسته طوال العام، على عكس الطالب الخائف الذي قد ينهار سريعًا تحت وطأة ضغط الامتحان، فتتأثر ذاكرته وقدرته على التركيز؛ مما يعني الفشل المؤكد.
ولكي تُجنِّب نفسك ويلات الضغوط؛ عليك إذًا أن تعرف كيف تحمي نفسك وترفع من مستوى صحتك النفسية، أو بعبارة أخرى: عليك أن تقوِّي من مناعتك النفسية، ويستلزم ذلك العديد من الإجراءات.
أولها: أن تُعزِّز ثقتك بذاتك، ويتطلَّب ذلك أن تكون واقعيًّا في التعرف على ذاتك، تُحدِّد إمكانياتك وطاقاتك بدقة ودون مبالغة، تتحرَّر من الصور الذهنية التي يرسُمها لك الآخرون، وتتبنَّى صورة خاصة لذاتك كما تراها أنت، تَرسُم لك هدفًا وتسعى لتحقيقه، على أن يكون هدفك متماشيًا مع إمكانياتك ولا يفوقها؛ حتى لا تصاب بالإحباط، تتبنى هدفًا طويلاً وتُقسِّمه لأهداف قصيرة، وكافئ ذاتك مع كل هدف تُنجِزه، والمكافأة قد تكون نزهة أو وجبة محبَّبة أو الالتقاء بصديق أو مشاهدة برنامج محبَّب أو اقتناء كتاب جديد أو حيوان أليف أو تحقيق أمنيَّة لك، وكل إنجاز سوف ينعكس على مدى تقديرك لذاتك وسيدفعك خطوة للأمام.
ثانيًا: يتوجَّب عليك أن تكون يَقِظًا لكل ما يحيط بك، احصر الأشخاص والمواقف والأحداث التي تُحفِّزك وتشعرك بالضغط وتَجنَّبها قدرَ الإمكان، ولا يعني ذلك أن تكون جبانًا وغير قادر على المواجهة، وإنما يعني تفادي ما يُمكن تفاديه دون خسائر.
ثالثًا: تعلَّم كيف تُنظِّم وقتك، لا تُنجِز أعمالاً متعددة في وقت واحد، ابدأ بالأولويات، اترك هامشًا إضافيًّا من الوقت تحسُّبًا للظروف الطارئة.
رابعًا: تَجنَّب الإرهاق، ولا تعمل لفترات طويلة، خذ قسطًا من الراحة عندما تعمل لفترة طويلة وتذكَّر أن المهم هو جودة ما تُنتِجه لا كَمُّ ما تُنتِجه.
خامسًا: تعلَّم كيف تكون مرنًا ككرة المطاط تضغطك الحياة ولا تشوِّه مظهرك وتُفقِدك طبيعتك، فمهما بذلت من جهد فسيطرتك محدودة وهناك أشخاص ومواقف وظروف تَفرِض نفسها عليك فرضًا، ولا تُجدي الحرب المستمرة دائمًا، في بعض الأحيان تحتاج للمرونة والصبر.
إن كل ما سبق يُعَد وقاية نفسيَّة، لكنها وحدها لا تغني، فهناك جانب بيولوجي عليك بمراعاته، حيث يحتاج جسدك للراحة والنوم، وبالطبع تختلف حاجة الجسد للنوم حسب العمر والنشاط المبذول، إلا أن الشخص العادي يحتاج إلى ساعات نوم تتراوح ما بين ست إلى ثماني ساعات يوميًّا، والأفضل أن تكون ليلية وفي مواعيد منتظِمة، وللنوم والراحة تأثير قوي على صحة الفرد وقدرته على مواجهة الضغوط النفسية، وهناك أيضًا ممارسة الرياضة من ثلاث إلى أربع مرات أسبوعيًّا، ومن الأنشطة الرياضية المناسبة المشي، خاصة في الأماكن المفتوحة، وكذلك السباحة وركوب الدراجة، وأخيرًا الغذاء الجيد.
ويبدو أن الطبيعة بما فيها أشبه ما تكون بصيدلية متنوِّعة، وتَكثُر المقالات المنشورة في الصحف والمجلات والمدونات والمواقع الإلكترونية، والتي تتحدَّث عن فوائد الخضراوات والفواكه، على كل حال لا تخدعك العناوين الجذابة، والتي تُخصِّص فواكه دون غيرها أو أطعمة دون غيرها، واتبع القاعدة العامة: تناوَل من كلِّ الأصناف باعتدال وتنوُّع، تحصل على الفائدة مكتملة، كما يتوجَّب عليك أن تُعدِّل من عاداتك الغذائية، وأن تتناول وجبات متوازنة وبكميات معتدلة، تجنَّب المشروبات والأطعمة التي تجعلك فريسة للضغوط، المشروبات المحتوية على الكافيين والكحول، والحلويات، وبالطبع التدخين.
وبما أن الإنسان لا يعيش منعزلاً عن غيره، فعليك أن تحاول إسعاد المحيطين بكِ، وأن تُساعدهم في الحصول على صحة نفسيَّة جيدًة، مما سينعكس حتمًا على شعورك الداخلي، فعندما تحاط بأشخاص أصحاء وغير مُحبَطين، فلن ترى انعكاس مشاعرهم السلبية على مرآتك، ومن هنا تظهر مسؤولية الأب والأم داخل كل أسرة في مساعدة أبنائهم على التمتع بصحة نفسية جيدة، بل وتعليمهم أيضًا كيفية وقاية أنفسهم من الاعتلال والضعف النفسي، ويبدو أن محاولة بعض الآباء فرض صور ذهنيَّة على أبنائهم لما يجب أن يَشبُّوا عليه، يُعَد خطرًا يُهدِّد صحة الأبناء النفسية؛ فقد لا تتوافق تلك الصور مع إمكانيات الابن وطاقاته، قد تفوقها فتُشعره بالعجز، وقد تَقِل عنها فتُشعِره بالعظمة والتعالي.
على كلٍّ لا يكفي أن تتوقَّف عند مبدأ الوقاية خير من العلاج، بل عليك أن تتبصَّر جيدًا بطبيعة الأخطار التي قد تُواجِهك وكيفية التصدي لها، وبما أننا نتحدث عن الضغوط النفسية كأهم خطر يُهدِّد الإنسان، فمن الضروري أن تعي جيدًا أن الضغوط قد تكون داخلية أو خارجية، فقد تَنبع الضغوط من داخل الفرد ذاته، ومن ذلك الضغوط الذاتية؛ كشدة الطموح بما يتجاوز طاقة الفرد، أو الخيالية في رسْم الأهداف، نقْص المرونة في التخطيط؛ مما يؤدي إلى سباق دائم لإنجاز الأعمال دون وقت كافٍ لالتقاط الأنفاس، وقد تكون الضغوط ناتجة عن صراعات داخلية بين رغبات الفرد واحتياجاته وبين قيمه ومُثُله العليا التي تحول دون تلبية تلك الرغبات، ومن هنا قد نجد أن الأشخاص المثاليين والمنضبطين أخلاقيًّا لدرجة عالية يُعانون أكثر من غيرهم في هذا الجانب، ولا يعدو جهاد النفس أن يكون درجة عليا من درجات هذا الصراع، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((المجاهد مَن جاهد نفسَه في طاعة الله، والمهاجر مَن هجر الخطايا والذنوب)).
أما الضغوط الخارجية، فتنبع من الأسرة أو المدرسة أو العمل أو المجتمع ككل، ومنها الضغط الناتج عن فِقدان العمل أو البحث عن عملٍ أفضل، الضغط الناتج عن عدم التوافق في بعض الزيجات، الضغط الناتج عن عدم التوافق مع زملاء الصف في المدرسة أو العمل بشكل عام، الضغط الناتج عن طبيعة المجتمع وما يَفرِضه من التزامات اجتماعية وهكذا.
إن تَعرُّض الفرد للضغوط بشكل مستمر، وعدم السعي لتخفيفها والتحرر منها – يُعرِّضه لأخطار وخيمة، فبالإضافة لتأثيرها السلبي على الصحة النفسية وبخاصة الضعيفة، فإن لها آثارًا بيلوجية سيئة، حيث يُنتج الجسم المُعرَّض للضغوط كمًّا زائدًا من الطاقة فوق حاجته؛ مما يدفع الشخص لمحاولة التخلص من الطاقة الزائدة؛ سعيًا للوصول إلى التوازن المطلوب، وقد يظهر حرق الطاقة الزائد بمظاهر عدة؛ كالعصبية، الصراخ، الحركة السريعة، وقد يوظَّف بشكل جيد في ممارسة الرياضة؛ للتخلص من الطاقة الزائدة من ناحية، ولتعزيز إفراز الهرمونات المساعدة على تخفيف الشعور بالضغط النفسي من ناحية أخرى.
وفي حال تَجاهُل ما سبق، من المحتمل أن يتعرَّض الشخص الواقع تحت ضغوط نفسية كثيرة للعديد من الأمراض العضوية؛ نتيجة لإفراز العديد من الهرمونات مِثل: هرمون الكورتزول، والذي يؤثِّر على جهاز المناعة، ومن الأمراض الشائعة في هذا الجانب: تصلُّب الشرايين، ارتفاع ضغط الدم، قرحة المعدة، السرطان، السكري، أمراض القلب بشكل عام، الصداع، الأمراض الجلدية، وأمراض الحساسية كالربو، وغيرها كثير.
وفي حال تَعرُّضك لضغوط نفسيَّة فعليك أن تسعى جاهدًا للتخلص منها، ويتطلَّب ذلك العمل إرادة حقيقية كي تتعافى مما ألَمَّ بك، وينقسم العلاج إلى: علاج نفسي، وآخر بيولوجي؛ أما عن العلاج النفسي، فمنه محاولة التفكير والتأمل لمعرفة سبب الضغط ومحاولة التخلص منه، السعي نحو مساعدة الآخرين مما سيُشعِرك بالسعادة، وسيُعزِّز شعورك بذاتك، وبأن لك قيمة في الحياة، محاولة التحدث عن مشكلتك، وهنا يبدو الاختلاف الواضح بين الرجال والنساء، فكما يقول د. جون جراي في كتابه الشهير “الرجال من المريخ والنساء من الزهرة”: “عندما يتضايق الفرد من أهل المريخ لا يتكلَّم أبدًا عما يُضايقه، فهو لن يُثقِل كاهل فرد آخر من أهل المريخ بمشكلته إلا إذا كانت مساعدة صديقه ضرورية لحل المشكلة، وبدلاً من ذلك يصبح هادئًا جدًّا، ويدخل إلى كهفه الخاص ليُفكِّر في مشكلته، يُقلِّبها ليجد حلاًّ، وعندما يجد حلاًّ، يشعر بتحسن ويخرج من كهفه، وإذا لم يكن قادرًا على الوصول إلى حل، فإنه يقوم بشيء لينسى مشكلاته، مثل قراءة الأخبار أو ممارسة لعبة، وبتحرير عقله من مشكلات يومه، يستطيع تدريجيًّا أن يسترخي، وإذا كان الضغط عظيمًا حقًّا، فيَلزمه أن يَنخرِط في شيء أكثر تحدِّيًا، مِثل التسابق بسيارته، أو التنافس في مسابقة أو تَسلُّق جبل، عندما يكون الرجل تحت ضغط نفسي سينسحب على كهف عقله ويُركِّز على حل المشكلة، ويختار في الغالب أكثر المشكلات إلحاحًا أو أكثرها صعوبة، ويصبح شديد التركيز على حل هذه المشكلة الوحيدة، إلى درجة أنه يَفقِد الوعي بكل شيء آخر بصورة مؤقتة، أما المشكلات الأخرى والمسؤوليات، فتتقهقهر للخلف”.
ويقول عن المرأة:
“عندما تتعرَّض المرأة للضغط، فإنها تشعر غريزيًّا برغبة في التحدث عن مشاعرها وكل المشكلات التي يحتمل أن تكون مرتبطة بمشاعرها، وعندما تبدأ في الحديث فإنها لا تراعي أولوية أي مشكلة حسب أهميتها، فعندما تكون متضايقة، فإنها تكون متضايقة من كل شيء، كبيرًا أو صغيرًا، إنها غير مهتمة مباشرة بالعثور على حلول لمشكلاتها، بل تبحث عن الراحة بالتعبير عن نفسها وفَهْم الآخرين لها، وبالحديث عشوائيًّا عن مشكلاتها تصبح أكثر انزعاجًا، لكي تنسى مشاعرها المؤلمة الخاصة، ربما تصبح المرأة متورِّطة عاطفيًّا في مشاكل الغير”.
من هنا يبدو أن الحديث حول المشكلة أو الضغط يختلف كثيرًا بين الرجل والمرأة، ففي حين لا يتحدَّث هو للتخفيف عن نفسه، وإنما يتحدث ليطلب النصح أو المساعدة – فإن المرأة تتحدث للتنفيس عن مشاعرها وتفريغ ضغوطها، وفَهْم طبيعة كلٍّ منهما له أثره في محاولة كل فرد مساعدة غيره في تفريغ ضغوطه حتى داخل الأسرة الواحدة، لا بين الزوج والزوجة، وإنما بين الآباء والأبناء؛ إذ لا توجد مشكلة عندما يتعامل الأب مع ابنه أو الأم مع ابنتها، وإنما تظهر المشكلة عندما يتعامل فردان من جنسين مختلفين.
وعلى الجانب الآخر للعلاج نجد العلاج البدني، ويتمثَّل في ممارسة الرياضة قدرَ الإمكان، وتعديل النظام الغذائي، والحصول على قدرٍ كافٍ من النوم، والحذر كل الحذر من محاولة تفريغ الضغوط في تناول القهوة بكثرة أو تدخين السجائر بلا حساب، فعلى حين تمنح هذه أو تلك صاحِبَها بعضَ الراحة لفترة مؤقَّتة، فإنها تُصيبه بما هو أسوأ مع مرور الوقت.
وعلى هذا يصبح الفرد منا بحاجة دائمة للعناية بصحته النفسيَّة وتقوية مناعته النفسية، وبما أن كل ما سبق ذِكره هو كلام علمي يسري على الأفراد جميعًا مع مراعاة الفروق الفردية بينهم، إلا أن لأبناء الإسلام حظًّا وافرًا من العناية والرحمة الإلهية، ففي كتاب الله وسنة رسوله الكريم الكثير من التوجيهات والتوصيات المُعينة على تعزيز المناعة النفسية للإنسان، والقرآن الذي هو كلام الله – عز وجل – فيه من الآيات ما يشفي الصدور والنفوس، فيقول تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82]، ولقد رسم الله للمؤمنين الهدف الأسمى في هذه الحياة، وهو هدف طويل يطول بطول حياة الواحد منهم، وهو العمل للآخرة، ورسم لهم هدفهم وبيَّنه؛ ليكون حافزًا لهم على العمل والاجتهاد، وليُشعِرهم أن لذواتهم قيمة في هذه الحياة، فهم لم يُخلَقوا عبثًا، ومن لم يُخلق عبثًا فله قَدره وقيمته ومكانته، ومن لم يُقدِّر نفسه حقَّ قدرها، فليس له أن يجزى بالحسنى، وإنما له العقاب في الآخرة؛ ولأن المرء يحتاج لأهداف قصيرة تُشعِره بالإنجاز وتكون دافعًا له؛ جُعِلت العبادات متكررة واحدة تتلو الأخرى لا انقطاع فيها، وجعل العمل عبادة وطلب العلم عبادة؛ ليظل المؤمن يعمل طوال حياته يُنجِز هدفًا تِلو الآخر، فيؤدي صلاة، ويقرأ كتابًا، ويُصلِح شيئًا، ويُسعد شخصًا، ثم يؤدي صلاة ثم يريح بدنه بالنوم، ثم يصحو فيسبح ربه، فينطلق لعمله فيؤدي صلاة، فيجالس أبناءه، فيُطعِمهم مما كسب رزقًا حلالاً وهكذا، فكل عمل من أعماله هو هدف قصير يُنجز ليبلغه هدفه الأسمى، وهو رضا الله والجنة.
ولأن مساعدة الآخرين تنعكس إيجابًا على صاحبها؛ فقد رغب فيها القرآن وكذلك السنة المطهرة، فقال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2]، وقال -صلى الله عليه وسلم- للترغيب في المساعدة بدون مقابل والتعاون على الخير: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبة من شُعَب الإيمان))؛ متفق عليه.
والمساعدة الكلامية قسم آخر تَجدُر العناية به، فالبسمة صدقة، والكلمة الطيبة صدقة؛ لأنهما دعْم نفسي بين الناس؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((تبسُّمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة))، وقوله: ((الكلمة الطيبة صدقة))، وعن عبدالله بن عمرو – رضي الله عنهما – عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((في الجنة غرفة يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها))، فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: ((لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائمًا والناس نيام))، وفي القرآن الكريم: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83].
وبما أننا أشرنا لكون الواقعية في تقدير إمكانيات الذات والتعامل معها طبقًا لذلك من وسائل تقوية المناعة النفسية، فإننا نجد القرآن الكريم يؤكِّد على ذلك في عدة مواضع؛ فيقول تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ [البقرة: 286].
وفي الإسلام حثٌّ على التضامن والتلاحم والتراحم وعدم الهجر؛ ليَظل كل مسلم داعمًا لأخيه، يُسانِده ويَشد أزرَه، ويُفرِّج عنه كربته، ويوسِّع عليه إن ضاقت عليه الدنيا، وله في كل ذلك الأجر والثواب من الله تعالى، وفي الإسلام ومعناه الكثير، وفي كتاب الله ما هو أكثر وأكثر، حقًّا، ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وإن اطمأنت القلوب فما يَضير الإنسان من بعد؟!