ما بدأ كثورة أصبح حرباً بالوكالة
كتب/ يوسف المقوسي
إنفجرت الثورة العربية عام 2011 مطالبة بالحرية والكرامة ولقمة العيش. ملأت الجماهير الساحات. كان حولها إجماع شعبي. أمر أخاف الأنظمة العربية. منهم من قدّم رشوات لشعبه كي لا يثور. منهم من أعطى تنازلات دستورية تماشياً جزئياً مع مطالب الثورة ولإخمادها. لكن الإنقسام بدا واضحاً جلياً. إنقسام بين شعوب تطلب الحرية ومنظومة حاكمة تعتمد الإستبداد وتعتبر الشعوب ما خُلقت إلا للطاعة والركوع أمام الحكّام. تغيّر المشهد العربي.
قيل عن الثورة أنها فشلت، وما قيل أنها مرحلة تتبعها مراحل. ما من نظام عربي إلا وشعر، بما لا يدع مجالا للشك، بأن عرشه يهتز. زال الإستقرار العربي من دون رجعة. الناس كسروا حاجز الخوف. تمرّدوا على الحكّام وتطاولوا عليهم. طالبوا بإسقاطهم. ما من نظام إلا وشعر أن أيامه معدودة. تبجح الحكام بالقول إنها ثورة لا قيادة لها، وأن لا برنامج لديها، الخ.. لكن الأمر واضح. لم تجتمع الجماهير في الميادين من أجل النقاش مع الأنظمة لإقناعها. شعارها المرفوع، “الشعب يريد إسقاط النظام”. إعتقد الناس أن إسقاط النظام فيه كرامة لهم وأن ذلك يعني فتح المجال أمام الحريات وتحقيق نوع من العدالة وإفساح المجال أمام فرص العمل.
برنامج الجماهير واضح وضوح الشمس. تجاهلته الأنظمة العربية. التفت حوله بما يسمى ثورة مضادة. أصرت الأنظمة على اتباع سياساتها المعهودة. ثم لجأت الى زرع بذور الشقاق والاختلاف لشرذمة الإجماع ضدها. خاضت حروبا ضد مجتمعاتها. بعضهم خاضها مباشرة. معظمهم خاضوها بالوكالة. استخدموا الجيوش الرسمية والجيوش غير الرسمية، وأهمها فرق الإسلام السياسي. ثم استقدموا الجيوش الأجنبية غير العربية للقصف بالطيران والاحتلال بالجيوش الأرضية. بعضهم دفع الثوار أو فصائل منهم لحمل السلاح. ارتكبت الأنظمة كل الموبقات والمحرمات لدفع الناس الى السلاح. زودوهم بالسلاح للدفاع عن شرفهم.
كان يبدو أن الصراع هو بين الأنظمة وفصائل الإسلام السياسي. لم يكن الأمر كذلك. كل فصيل إسلاموي كان يأتيه التمويل من دولة عربية خليجية باسم الدين، أو من دولة مجاورة باسم الدين أيضاً. ما بدا أنه صراع حول الإسلام، أو ضد التكفيريين والجهاديين، كان في الحقيقة حرباً ضد الناس. لكل دولة من دول الخليج “وكلاؤها”، يناضلون على الأرض. تعددت الفصائل الإسلاموية بتعدد الدول الممولة. أموال للحرب والدمار لا للإعمار والتنمية. لكل بلد خصوصيته، هذا صحيح. لكننا نتحدث عن الصورة العامة.
ما بدأ كثورة ضد الأنظمة صار حرباً أو حروباً بالوكالة بين الأنظمة وفرق الإسلامويين، وحروب بين هؤلاء الإسلامويين أنفسهم. هي حرب واحدة تحالفت فيها الأنظمة مع الدين السياسي. الدين للتفرقة والشرذمة الشعبيتين، والسياسة (بالأحرى انعدام السياسة الحقيقية) لأنظمة مختلفة في ما بينها لكنها موحدة في أهدافها: القضاء على الثورة ومفاعيلها. أنظمة لا تريد أن تتنازل ولو قيد أنملة. وفصائل دينية لا تعرف من الدين شيئاً، ولا تأبه له. سياسة تحكم الدين. سياسة مجرمة. فصائل دينية أولويتها المال.
المال متوفر عند أنظمة الاستبداد الخليجية، من القطاع العام أو الخاص. غيرة الدين متوفرة عند الفصائل الإسلاموية. يتصارعون على الدين كما يتصارعون على المال. هدفهما واحد هو إجهاض مطالب الناس. إبعاد الناس عن السياسة. منع النقمة من التحوّل الى غضب على الحكام وسياساتهم. جوهر القضية هو الاستخفاف بالناس. يتحالف المستبد مع الله في تطويع الناس، وفي إخضاع العامة. لم يدرك أهل الدين أن الوكيل عن الله ليس هم بل هو الطاغية.
سيطرة الطغاة في حرب ضد الناس بدت وكأنها حرب بين الطغاة العلمانيين والدين. فإذا بها حرب بين الطغاة بتحالف مع الدين ضد الناس. لم يحسن الاخوان المسلمون التعرّف الى القضية فكانوا ضحيتها. على الرغم من الدهاء السياسي للغنوشي، فإن ما يحدث في تونس هو نوع من حرب الطغاة على الناس. بالمناسبة، أصدر الغنوشي في التسعينيات كتاباً حول الديموقراطية (صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية). عندما تقرأ الكتاب تجد أن التورية والتعمية هما القصد، وأن صاحب الكتاب لم يعن الديموقراطية، أي المجتمع المفتوح، بل كل ما عناه هو ديموقراطية الانتخابات. في انتخابات ديموقراطية بعد إسقاط النظام سوف يفوز كل من كان في النظام. أعداء النظام في مختلف الأقطار العربية لم يكونوا الإسلاميين بل كانوا النخب العلمانية والحداثوية. لست أدري ما هي العلمانية، لأنني لست مضطراً للاختيار بين الكفر والإلحاد، بين الدين أو عدمه، بل أؤمن بجدلية واحدة هي بين الفرد والجماعة، بين الإيمان والطقوس، بين أن يسلم المرء أو يؤمن: “قلْ لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا”، وهذا الكلام موجه للمنافقين في الدين.
خلاصة القول أن في الحروب الأهلية التي تبعت ثورة 2011، كان هناك تحالف بين عقيدتين: عقيدة الخضوع لله وعقيدة الخضوع للطاغية. إتحدت العقيدتان ضد إيمان واحد له شرعية إنسانية، وهو الإيمان بالناس، بالديموقراطية، بالحداثة وبالشعب على أنه كتلة من البشر فيها التناقضات كما المتحدات. ليس الله أداة بيد أهل الدين، ولا حتى بيد أهل الإيمان. هو فقط تطلع الإنسان الى ما بعد وما وراء الحياة. الماهية التي توجد بعد الموت. الإيمان مسألة علاقة بين الإنسان وخالقه ولا علاقة للدين بهما. استحسن أهل الدين القدرة على السيطرة على البشر بواسطة الطقوس والرياضات الذهنية والفكرية والروحية. لكنهم في الأساس استحسنوا مبدأ السيطرة. فكان تحالفهم مع أهل السيطرة السياسية. مع الطغاة وآلهة الاستبداد. فاستحال الدين لديهم وسيلة للاستبعاد. ولا تمييز بين الاستبداد السياسي وغيره من أنواع الاستبداد.
كل من الاستبداد السياسي والدين السياسي أراد وضع الجماهير خارج السياسة، وخارج الصراع كي يتخلوا عن مطالبهم في الحرية. مهما ظهر من خلاف أو صراع بين الأنظمة والدين السياسي، إلا أنه كان صراعاً على السلطة؛ لم يكن الإيمان أحد أركانه. فيه دافعت قوى إسلامية، سنية وشيعية، عن الطغيان. ناضلت الى جانب الاستبداد ضد ثورة الشعب. وقف الدين السياسي الى جانب السلطة والمال. مارس سلطة أخرى على الناس. خان قضية. عندما ذهبت بعض البلدان العربية للتطبيع مع العدو الإسرائيلي، وهو أمر ضد الناس، كان الإسلامويون قد سبقوهم في الحرب ضد الشعب. لم يكن ما فعلته أنظمة التطبيع مختلفاً عن أنظمة الممانعة. كل منهما كان مشاركا في الحرب على الناس، وإن بدا عليهم الاختلاف. ما يفعله نظام في مجال، يفعله نظام آخر في مجال آخر. لكن العداء للناس ومطالبهم أمر مشترك. كل منهما عمل وناضل وسعى من أجل إنهاك قدرة الناس على المقاومة.
فقد الاستبداد صدقيته منذ زمن طويل. وانضم إليه الدين السياسي في ذلك. كلٌ منهما وضع الناس أمام خيارين لا ثالث لهما: الحرية أو الحرب. وإذا اختار الناس الحرية فعليهم مواجهة الحرب. هكذا وبعد عشر سنوات على ثورة 2011، يبدو الناس وكأنهم استكانوا، وأن الثورة المضادة قد نجحت. ذلك أمر مؤقت. لن يموت مطلب الحرية إلا بإبادة الناس. يبدو الأمر مستحيلاً. ستندلع الثورة من جديد وبشكل غير متوقع، وبأساليب غير متوقعة. هكذا حدثت من قبل وهكذا سوف تحدث.
ارتبط الانتماء للعروبة بالحرية والحداثة والتقدم ارتباطاً لا فكاك له. بل صارت الحرية ومتعلقاتها جوهر العروبة. طهّرت العروبة نفسها من خبث واحتيال أنظمة الاستبداد، وطهّرت نفسها من الاعتقاد بأن الدين السياسي يمكن أن يكون طريق الحرية. أدان الدين السياسي نفسه بأن أزاح الجماهير من ساحة الصراع الذي صار مقتصرا على الاستبداد والدين السياسي. لم يكن الدين السياسي في الساحة باسم الناس بل كان يعبّر عن مواقف وآراء تريد إخضاع الناس لاستبداد من نوع جديد. أفلس مع إفلاس الاستبداد السياسي الذي حاول الدفاع عنه بإخراج الناس من المعادلة. في الأصل، ومنذ زمن طويل، ما دخل الدين السياسي بلداً عربيا إلا وأنتج فيه حربا أهلية. يريد الناس نظاما جديدا يلوح فيه المستقبل وقاعدته رفض الماضوية التي يتمسّك بها الإسلام السياسي. يريد الناس تجديداً في الحياة. تجديد لا يقدر عليه الدين السياسي. أخرج الدين السياسي نفسه من وعي الجماهير وإن بقي المزاج العام دينياً. يريد الناس ديناً آخر يتماشى مع مطالبهم. هو من فرض عليهم ماضوية متخلفة لا تحل أيا من مشاكل الناس، وهي كثيرة.
بعد أن خضع البعث بأجنحته لأنظمة عسكرية انضمت الى الأنظمة العسكرية العربية الأخرى، وملوك وشيوخ النفط، تبرز عروبة جديدة ترفض الأسس التي قام عليها البعث، وهي أسس لأمة ميتافيزيقية لا تختلف كثيراً عن الأمة الميتافيزيقية التي أدماها الدين السياسي.
تبرز عروبة، ربما كانت مضمرة في بعض الأحيان، لكن جوهرها هو الحرية؛ أبصارها الى المستقبل. تستخدم التاريخ لفهم التطوّر وصولاً الى التقدم والحداثة. عروبة واقعية تحترم البلدان التي هي منها. تؤمن بسيادتها من خلال دولتها، وتؤمن بالناس الذين يخضعون لهذه السيادة، وتؤمن أن المصير واحد مهما كانت الظروف. لا تسحب الشرعية من الدول العربية باسم الشريعة، كما فعل الإسلاميون، بل تصوغ دساتير وقوانين تستند الى حاجات الناس لا الى إملاءات الطغاة وأوهام الدين السياسي. عروبة تفصل الإيمان بالله عن طقوس الدين السياسي. تخوض معركة في كل مكان، كما في تونس. وتخوض معركة مع كل أشكال الاستبداد السياسي، كما فعلت في ثورة 2011.
جاء الدين السياسي والاستبداد والتحالف الذي طغى على المشهد العربي، بكل القوى الخارجية، الإقليمية والدولية، لإنقاذهم. الحروب الأهلية في المنطقة العربية هي أشبه بحرب عالمية تخاض في منطقتنا. جيوش من كل أنحاء العالم تتخذ لها قواعد في بلادنا لنصرة تحالف الأنظمة مع الدين السياسي وإنقاذ منظومة سياسية لا تصلح للبقاء.
إذا كانت ثورة 2011 قد زعزعت الأنظمة العربية، فإن الثورة العربية سوف تزعزع النظام العالمي. هذا النظام الذي يفتش عن عدو منذ انتهاء الحرب الباردة. وجد في الثورة العربية عدوه. لم يوجه هذا النظام العالمي عداءه ضد أنظمة الاستبداد السياسي ولا ضد الاستبداد الديني بل وجّه عداءه ـ وإن لم يقل ذلك علناً ـ للشعوب العربية التي ترفض الإثنين معاً.
لم يفهم النظام العالمي ثورة 2011، فتعامل مع أطراف الثورة المضادة ودعمها. ولم يفهم النظام العالمي ماذا يريد العرب. هم يريدون بكل بساطة الحرية والتحرر من كل أنظمة الطغيان السياسي والديني. الحرية تعني الكرامة والعيش والعدالة الاجتماعية. العروبة جوهرها الحرية وهذه المطالب المترتبة عليها. هو ليس صراع حضارات، بل صراع الطبقات المضطهدة والمهمشة والمذلولة والملغاة من المعادلة ضد الطغيان والإفقار والإذلال. هو صراع طبقي في جوهره. صراع الذين في أدنى السلم الاجتماعي ووسطه ضد الطبقات العليا في البلاد العربية وفي العالم. العروبة شعب يناضل من أجل حريته. خبا النضال لفترة لكنه سيعود الى الظهور. الشعوب خلّاقة. لا ينعدم لديها الوعي بحاجاتها، وفي طليعتها الحرية. الشعوب خلّاقة وسوف تجد طريقها الى الحرية.
ما يبدو ثلاثية الثورة المضادة والدين السياسي والجماهير الشعبية هو في الحقيقة ثنائية منظومة الاستبداد السياسي والديني ضد الشعوب العربية.