هنيبعل كرم : تجربتي الشّعريّة مزيجٌ من ألم وحبّ وأمل وإنسان وإنسانيّة، ووطن نبحث عنه أجرى الحوار
هنيبعل كرم : تجربتي الشّعريّة مزيجٌ من ألم وحبّ وأمل وإنسان وإنسانيّة، ووطن نبحث عنه
أجرى الحوار /لطيفة محمد حسيب القاضي
موعدنا اليوم مع القنديل المضيء فهو يحمل لطف شاعر وحكمة فيلسوف وفكر روائي. لديه وعي عقلي حقيقي يتطابق مع العالم لتصبح صيرورة الإنسان عالماً عقلياً مضاهياً للعالم العيني. هو الشاعر والأديب والروائي اللبناني هنيبعل كرم من مواليد 1975 حاصل على دبلوم في الفلسفة وماجستير في الدراسات المسيحيّة الإسلامية، يعمل أستاذًا في معهد القديس يوحنا الدمشقي – جامعة البلمند ومنسقًا للغة العربية. عضو في اتحاد الكتاب اللبنانيين وناشط في الحقل الاجتماعي والأدبي. له رواية وثلاثه دواوين شعرية ومجموعة من القصائد والمقالات الأدبية والنقدية المنشورة في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية اللبنانية والعربية و له أعمال قيد التنفيذ٠
إليكم نص الحوار الذي يجمع في ثناياه المتعة والإفادة والتشويق
أهلاً و سهلاً بكم أستاذ هنيبعل ضيف كريم معنا اليوم٠
– بداية نريد أن نعرف من هو هنيبعل كرم؟
أعمل أستاذًا للّغة والأدب العربيّين والفلسفة، ومدقّقًا لغويًا، حائزٌ على ماجستير في الدّراسات المسيحية-الإسلاميّة ودبلوم في الفلسفة، عضو في اتّحاد الكتّاب اللبنانيين، وأحد أعضاء اللجنة التي تعرض عليها النّصوص المختارة للترجمة إلى اللغة الألمانية ضمن مشروع ترجمة الشعرالعربيّ الحديث. مؤسّس ومشارك بتأسيس عدد من المنتديات الشّعريّة في لبنان. أكتب الشّعر والرّواية وأحاول أن أترك بصمات إيجابيّة في هذا العالم. لي أربعة إصدارات: رواية وثلاثة دواوين تُرجم أحدها إلى الألمانية.
– أنت أستاذ في الفلسفة والأدب؛ لماذا اخترت الفلسفة والأدب، وهل واجهت عراقيل وصعوبات في حياتك حتّى تصل إلى ما أنت عليه الآن؟
الانسان هو ابن البيت والعائلة الصّغيرة بداية، إذ يشكّلان أولى منطلقاته الفكرية ومواهبه النّفسيّة، وابن المحيط الاجتماعي والثّقافي الأوسع أيضًا. لا شكّ في أنّ لتربية والدي الصّحافيّ، ووالدتي الحائزة على شهادة في الفلسفة ومدرّسة اللغة الفرنسية، وللجوّ الثقافي الذي ترعرعت فيه، تأثيرًا مباشرًا على تكوين شخصيّتي وميولي الأدبية والفنيّة والفلسفيّة. الصّعوبات والعراقيل التي واجهتها كانت كثيرة وكبيرة، ويكفي أن أذكر أنّني من ذلك الجيل الذي تزامنت صرخةُ ولادتِه مع أولى رصاصاتِ الحرب الأهلية في لبنان. رغم بشاعة تلك الأحداث، أجد أنّه أمرٌ كان له تأثير إيجابيّ على المستوى الشّخصيّ، كونه بناني إنسانًا عصاميًّا طموحًا.
– لماذا تراجعت العقلانيّة في العالم العربيّ؟
لأساب كثيرة ومعقّدة. أساسها قديم، يعود إلى خسارة معظم التيّارات الفلسفية العقلانيّة معارك طويلة أمام جمود التقليد وحرفيّة النّص وتحجّرالعقول، كما والحكم على حركات التنوير والتثوير بأنّها حركات كفر أو زندقة أو تخريب. ومنها أيضًا هيمنة السّلطة السّياسيّة التي لطالما كانت تمثّل “الحقّ إزاء الباطل” على كلّ شيء، حتّى على الثقافة والتّربية والعقول الفرديّة، وقدرتها على الإمساك “بالشّوارع” العربيّة والسيطرة عليها تحت عناوين فضفاضة، حماسيّة وملهِمة.
– قمت بتأليف رواية “فِصام”؛ لماذا لجأت إلى كتابة الرّواية، وهل تناولت الرّواية من منظور فلسفيّ، وهل برأيك أنّ النّقد يثري التّجربة الرّوائيّة؟
كتبت الشّعر قبل الرّواية، ولكنّها كانت العمل الأوّل الذي رغبتُ في نشره. أتتني “فِصام” دفعة واحدة، فأنجزتها بغضون أشهر قليلة، وطبعتها في 325 صفحة، بعد أن حذفت قرابة الثمانين صفحة منها. كانت “فصام” بمثابة قصيدة طويلة، واقعيّة جدًّا بأحداثها وشخصيّاتها وأماكنها، وتنزع إلى الفلسفة وعلم النّفس بالتّفاصيل والتساؤلات الكثيرة التي تطرحها. تحكي فصام قصّة جيلِ ما بعد الحرب، والأزمات النّفسيّة والوجوديّة التي عاشها، وتصوّر حالة البحث عن الحبّ، وحالة القلق وانعدام الأفق والفوضى النّفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي وجد جيلي نفسه في خضمّها وسط الشّوارع التي انسحب منها المقاتلون وأمراء الحرب اللبنانيّة إلى كراسي السّياسة وإدارة مرافق الدّولة، بعد أن “دفنّا جثث الضّحايا وأقمنا فوقها الحدائق وملاعب الأطفال…”.
لا شكّ بأنّ النّقد العلميّ الموضوعيّ يثري التّجربة الرّوائية، وأيّةَ تجربةٍ إنسانيّة أخرى يُراد التعبير عنها بالكتابة أو بغيرها. النّقد يثري، كما وتجارب الحياة والنّضج الفكريّ وتطوّر اللغة وأسلوب التّعبير أيضًا.
– لك ديوان شعريّ باسم “حاضر في الغياب”؛ حدّثني عن تجربتك الشّعريّة.
“حاضر في الغياب” هو أوّل إصداراتي الشّعريّة، تلاه ديوانان آخران. أعتبره عملا متواضعًا على المستوى الشّعري، اخترت له مجموعة صغيرة من مئات القصائد التي كتبتها في بدايات رحلتي الشّعريّة، وأردت أن أختصرها بالشّكل الذي صدر به هذا الدّيوان. تجربتي الشّعريّة مزيجٌ من ألم وحبّ وأمل وإنسان وإنسانيّة، ووطن نبحث عنه.
– كيف تعلّق على المشهد الثّقافي اللبناني؟
بالحديث عن النّقد الموضوعيّ، يمكنني أن أقول إنّنا نشهد تبدّلا في القيم والمفاهيم والرّؤية على مستوى العالم كلّه، وبخاصّة بعد أزمة الوباء الأخيرة، ولهذا انعكاسات على مختلف نواحي الحياة الثّقافيّة، ومنها الشّعر والأدب والفلسفة والفنّ وصناعة الأفلام والموسيقى… لذلك أختصر بالقول إنّنا في لبنان اليوم وفي العالم العربيّ بشكل عامّ، لمّا ننتج بعد ما يجعلنا نقول للعالم “عندنا لك شيء جديد”. نحن لم نزل في طور مراعاة حال “السُّوق” والباعة، والمِزاج الشّعبيّ، والتّجربة الشخصيّة الفرديّة الضّيقة الخاصّة بنا، بغضّ النّظر عن قيمة هذا الانتاج الفسيفساء.
– ما هي الشّخصيات التي تأثّرت بها علميًّا؛ قديمًا أو حديثًا؟
أعجبتُ قديمًا بالثوّرة العلميّة والفلسفيّة وبشخصيّاتها التي كانت بغداد مسرحًا لها في العصر العبّاسيّ، وقد طالت إشعاعاتُها العالمَ كلّه. من المعاصرين يعجبني كلّ من يدهشني بدماغ فريد يقدّم أمرًا حسنًا إلى الإنسانيّة. منهم العالم الفلسطيني الأصل الأميركي الجنسيّة منير حسن نايفة الذي ترشّح لجائزة نوبل للفيزياء، المصريان أحمد زويل في الكيمياء ومحمّد النّشائي في فيزياء الكمّ، السّعوديّتان ماجدة أبو راس في علوم الملوّثات البيئيّة وغادة المطيري في الكيمياء، عالمة الفلك السّوريّة شادية رفاعي حبال، وغيرهم الكثير. أمّا من علماء الغرب فيصعب التّحديد حقًّا، ولكنّي أسمّي ألبرت أينشتاين وستيفن وينبرغ.
– ما هي الأفكار التي أثّرت في فكركم في مجال الفلسفة؟
أعجبت بعقل هيغل وحريّة سارتر ونزعة الانسان السوبرمان عند نيتشه، وأخلاقيات السّياسة لدى بول ريكور، وعلم الاجتماع عند ابن خلدون والفلسفة المدرَحية لأنطون سعاده.
– كيف تنظرون إلى الإسهام الفلسفيّ المعاصر، وما مدى حضور المرأة في الإسهام الفلسفي بوجه عامّ؟
لقد انتهى زمن فلسفة “الأفكار الكبرى” التي تحاول أن تجيب عن أسئلة الإنسان حول الكون والوجود. ولكنّ الفلسفة لا تزال تسيّر عجلة العالم نحو الدّمار أو نحو السّعادة الإنسانيّة، كونها تشكّل منطلقات التفكير والعمل لأخلاقيّات العلوم والسّياسة والاقتصاد…
من جهة أخرى، استطاعت المرأة أن تفرض وجودها في مختلف الميادين، ومنها الفلسفة. ولكن للأسف، نحن لا نذكر أو نتذكّر إلا “الرّجال”، علمًا أنّ لكثير من النّساء فضلا مؤثّرًا في الحركة الفلسفيّة عبر التّاريخ، مثل هيباتيا المقتولة، روزا لوكسمبورغ، حنّة آرنت، سيمون دي بوفوار التي اعتبرها البعض أم الحركة النّسائيّة وحريّة المرأة في العالم. لهؤلاءِ النّساء تاريخٌ مذهل من الصّراع الفكريّ والاجتماعيّ والدّيني، وقد استطعن أن يفرضن وجودهنّ على العالم إلى اليوم، سواء أوافقناهنّ أفكارهنّ أم لا.
– الرّجل والمرأة يختلفان من حيث الطّبيعة والميل نحو العقل والقلب، فهل يختلفان في مجال القضايا فلسفيًّا، أم إنّ المنهج المتّبع هو ما يحدّد مسار المعالجة؟
لا بدّ أن يكون لطبيعة الإنسان وتركيبته النّفسيّة والعقليّة وللتّجارب التي يمرّ بها، أثرٌ في حياته الفكرية. ولكن عادة ما يؤكّد الالتزام بمنهج فلسفيّ محدّد وواضح، انتماءَ الفيلسوف إلى هذا المذهب الفلسفيّ أو ذاك. أظنّ أنّ الاختلاف في مجال القضايا الفلسفيّة بين الرّجل والمرأة طفيفٌ، فالفلسفة نشاطٌ فكريّ عقليّ في الأساس بعيدٌ عن العاطفة والخيال الأدبيّ.
– كتبت مجموعة من المقالات الأدبيّة والنّقديّة ونشرت في العديد من المجلّات والصّحف الأدبيّة… أين تجد نفسك، هل في الرّواية أم الشّعر أم كتابة المقالات النّقديّة… ما سبب التنوّع في كتاباتك؟
تصعب الإجابة في الحقيقة؛ أميل، حتّى الآن، إلى أن أكون روائيًّا وكاتب مسرحيَّات فلسفيّة وممثلا على الرّغم من أن لي رواية واحدة منشورة وأخرى قيد الانجاز، وتأتي القصيدة ومضاتٍ يوميّةً على غفلة، فأراني أكتب الشّعر كحاجتي إلى الهواء. لا أرى نفسي ناقدًا إلا بحدود ما تتطلّب الظّروف أو العمل، أترك لغربال الزّمن هذه المهمّة. أظنّ أنّ هذا التنوّع في الكتابة هو أوّلا بعضُ اكتشافاتِ الانسانِ لنفسه المتعدّدةِ الأبعاد، وهو ثانيًا، وبتواضع شديد، دليلُ غنىً ثقافي وقراءات ودراسات طويلة اكتسبتها بشخصيّة عصاميّة بنيت لبناتها بيديّ العاريتين.
– أنت عضو في اتّحاد الكتّاب اللبنانيين وقد قدّمت رسالة الماجستير في الدّراسات المسيحيّة الإسلامية. حدّثني بإيجاز عن مضامين الرّسالة؟
أفتخر بعضويتي في اتّحاد الكتّاب اللبنانيين، وأشكر القيّمين عليه لمنحي هذا الشّرف.
رسالة الماجستير خاصّتي لم تكن بعيدة عن ميولي وخلفيّتي الفكرية، فلطالما نشأتُ معتبرًا نفسي ابنًا لهذا التراث العريق والعظيم، أعني التراث المسيحي والإسلامي، بكلّ ما فيه من إرهاصات وانتكاسات تتطلّب منّا إعادة نظر شاملة ودقيقة.
الرّسالة تدور حول إشكالية فلسفية تتعلّق بالذّات والصّفات الإلهية وإمكانيّة رؤية الله تعالى بالأبصار، وقد تشابهت الآراء أحيانًا، واختلفت بشكل جذريّ أحيانًا أخرى بين علماء الكلام والفلاسفة واللاهوتيين من الدّيانتين. وهذا بالنّسبة لي دليلٌ على وجود عقل جمعيّ واحد، غنيّ ومتعدّد الأبعاد. ولقد قدّمت في الرّسالة نموذجين لدراسة هذه الإشكالية هما: القديس يوحنا الدّمشقي، والقاضي عبد الجبّار المعتزلي.
– كيف تعلّق على المقولة الشّائعة “الرّواية العربيّة الآن ديوان العرب”؟
صحيحة إلى حدّ ما، فإنتاج الرّواية اليوم أصبح “موضة” العصر في العالم كلّه تقريبًا. ولكنّها لا تستطيع أن تختزل ما للشّعر من مزايا لا تمتلكها الرّواية، إن على مستوى تجسيد الفكرة بكلمات قليلة قد تصلح لرواية طويلة، والوصول إلى القراء بسرعة أكبر، أو على مستوى جماليّات النّصّ وفنيّته وكيف يسكب الشّاعر عصارة روحه في فكرةٍ تتألّقُ بين الصّوت والإيقاع على أجنحة الأثير، صعودًا صعودًا…