وجع الخذلان
ماذا يفعل بنا الخذلان
تم نسخ الرابط بنجاح!

👁️
10,220 مشاهدة
كتبت .. الأديبة والشاعرة سهام حلمى
ليس في الدنيا وجع يشبه وجع الخذلان.
إنه ذلك السقوط المفاجئ الذي يحدث من الداخل، لا من الخارج؛ السقوط الذي لا يسمعه أحد، لكنه يترك في الروح شقًا لا تلتئم حافته بسهولة.
فالخنجر الذي يأتي من غريب مجرد حادثة، أما الطعنة التي تأتي من قلب كنا نطمئن إليه فزلزال يمحو نصف معاني العالم.
الخذلان لا يحدث دفعة واحدة.
إنه يبدأ بلمسة صغيرة من اللامبالاة، ثم كلمة عابرة تنقصها الحرارة، ثم تراجع خفيف في الاهتمام لا ننتبه إليه في البداية.
لكن ما يوجع حقًا ليس الفعل، بل صمت الروح أمامه، واستمرارها في الدفاع عن من خذلها كي لا تعترف بالخراب.
ذلك الإصرار العجيب على تبرير كل ما لا يُبرر، وعلى تجميل كل ما لم يعد جميلًا، وعلى حماية من لم يعرف كيف يحمي قلوبنا.
وهناك خذلان لا يأتي بقسوة واضحة، بل يأتي بلطف بارد، بغياب مكرر، بوعود لا تُنفذ، وبأكتاف لم تعد تحتمل بقايا حزننا.
الخذلان هو أن ينسحب شخص تدريجيًا من مساحتك حتى تشعر أن وجودك أصبح عبئًا عليه، ولو لم يقل ذلك صراحة.
لكن ما يجعل الخذلان موجعًا إلى هذا الحد ليس الرحيل نفسه، بل ما يكشفه لنا الرحيل.
يكشف لنا أننا كنا نرى بأعين ترفض الحقيقة، ونسمع بقلوب تبحث عن عذر قبل أن تبحث عن فهم، ونتمسك بكل من أعطانا نصف حضور، لأننا كنّا نحتاج الحضور كله.
والحقيقة أن الخذلان لا يعلّمنا القسوة كما يظن البعض، بل يعلّمنا الفروق الدقيقة بين الحب والتعلّق، بين الاهتمام والاعتياد، بين من يريدك فعلًا ومن يعتاد وجودك فقط.
يعلمنا أن نقيم وزنًا لذواتنا، وأن نفهم أن القلب الذي يخذلنا لا يستحق أن نحمل وجعه طويلًا.
وهناك نوع من الخذلان أكثر ما يكون ظلمًا…
هو خذلان الذات.
حين نخذل أنفسنا بأن نسمح لشخص أن يؤذينا مرتين، أو أن نغلق أعيننا عن العلامات الواضحة، أو أن نمنح فوق ما نستطيع، أو أن نكتم الألم كي لا نخسر من لا يخشى أن يخسرنا.
ومع ذلك، فإن الخذلان ليس نهاية، بل بداية مرحلة أكثر نضجًا.
فبعد أول خيبة حقيقية، يبدأ القلب في فهم لغته الخاصة:
يفهم متى ينفتح، ومتى ينكمش، ومتى يصمت لينجو.
يفهم أن الحب ليس تضحية دائمة، وأن الوفاء لا يُقدم إلا لمن يستحقه، وأن من يغادر بلا سبب لن يعود بسبب.
والأجمل أن الخذلان يخلق في روح الإنسان ليونة غريبة.
يصبح أكثر رقة، وأكثر وعيًا، وأكثر قدرة على رؤية الجوهر بدل المظاهر.
يصبح يميز بين الكلمة التي تُقال صدقًا، والكلمة التي تقال عادة، وبين اليد التي تمتد حبًا، واليد التي تمتد وقت الحاجة فقط.
وحين يلتئم القلب بعد الخذلان، لا يعود كما كان.
يصير أقوى، لكنه لا يقسو.
يصير أعمق، لكنه لا ينغلق.
يصير حذرًا، لكنه لا يتوقف عن الحب.
فالخذلان لا يقتل القدرة على المحبة، وإنما يعلّمنا كيف نحب دون أن نمحو أنفسنا، وكيف نمنح دون أن ننكسر، وكيف نختار من يليق بنا لا من نتعلق به.
وفي النهاية، ندرك أن الخذلان لم يكن عقابًا، بل تنبيهًا؛
تنبيهًا إلى أن قلوبنا أغلى مما ظننا، وأن أرواحنا تستحق من يحميها،لا من يتركها
تم نسخ الرابط بنجاح!









