يوميات طبيب امتياز: حبة الموت
بقلم الدكتور أحمد الوحش
جلس الصغير صاحب الخمسة عشر عاماً هادئاً مبتسماً أمام أعيننا، فهو لا يدري ما الذي يحدث داخل جسده، كنا خمسة أطباء امتياز في الغرفة نتدرب مع الطبيب النائب، تعجب الجميع متسائلين “الولد ما شاء اللّٰه زي الفل، وبيلعب معانا، إيه اللي جابه هنا؟”.
تفاجأنا بكلماتٍ زلزلت الغرفة؛ حيث قال النائب “أخد حباية غلة، وللأسف جه المستشفى متأخر، احنا عملنا له كل شيء، وبنحاول معاه، لكن للأسف…”.
لم يكمل النائب كلامه، أو ربما لم أستمع إلى البقية؛ لأنني وقفت مصدوماً، ولم أعد أشعر بوجود الأرض تحت قدمي، الفتى يلعب، ويضحك معنا، فكيف نتحدث الآن عن الموت بهذه السرعة؟
لقد تيقنت أننا نقف داخل قبرٍ تحيط بنا رائحة الموت من كل اتجاه، فجميعنا يعلم نهاية الأمر إلا هذا الصغير، فقد تأخر في المجيء إلى المشفى، وقد تفاعل “قرص الغلة” -كما نطلق عليه- مع عصارة المعدة، فنتج عن ذلك غاز الفوسفين السام، إنه قاتلٌ صامتٌ خبيثٌ يعطي الأمل الكاذب للمريض، ثم يسلبه حياته، ويتلاعب بمشاعر الطبيب، ثم يؤكد له خوفه الأكبر، فعندما ينتشر هذا الغاز في أنحاء الجسم يؤدي إلى فشل عام في جميع أعضاء الجسم.
علمت لاحقاً أن الصغير شرب قليلاً من الماء قبل وصوله، هنا تكمن المشكلة، فشرب الماء يحفز التفاعل، ويزيد إنتاج غاز الفوسفين في الجسم، ويؤدي إلى سرعة انتشاره، لم يستغرق الأمر أكثر من ساعة من لحظة وصوله.
وأثناء محاولاتنا اليائسة لاحظنا انخفاضاً في ضغط الدم، إنه مؤشر اللحظات الأخيرة من حياة هذا الصغير، ثم شعر بخفقان القلب، وضيق التنفس، الآن بدأ الصغير يشعر أنه ليس على ما يرام، فطوال الساعة الماضية كان الأمر بمثابة نزهة إلى المشفى، لكننا نعلم من البداية أن الأمور دخلت مسار اللا عودة، سينتهي الأمر بفشلٍ كلوي حاد، وفشلٍ في جميع الأعضاء الأخرى.
طلب صديقٌ لنا من هذا الصغير نطق الشهادة، فنطقها مرتين، ثم أُغلِقَت عيناه إلى الأبد، كان هذا الصغير -رحمه اللّٰه- طيباً للغاية.
لقد كان الأمر شاقاً على النفس، ويتوجب عليَّ أن أحدثك اليوم كطبيب، لا ككاتب، وأن أكتب “يوميات طبيب امتياز”؛ لأساعد في نشر الوعي الطبي، لكن هذه المرة سأكسر قواعد المقال الأدبي؛ لأن الأمانة الطبية توجب عليَّ أن أحدثك اليوم عن كيفية التعامل مع مريض تناول حبة الغلة.
التعليمات الواجب فعلها قبل الذهاب إلى المشفى، وأسبابها:
١- ممنوع شرب الماء؛ لأنه يزيد من سرعة امتصاص القرص، وإنتاج غاز الفوسفين القاتل.
٢- يمكنك إعطاء المريض زيت البرافين، أو زيت جوز الهند قبل التوجه إلى المشفى؛ لأنه يغلف بطانة المعدة، ويقلل من امتصاص القرص، ويقلل من سرعة التفاعل، والانتشار.
٣- سرعة التوجه إلى المشفى، فهذا هو السبب الأهم لإنقاذ المريض.
٤- في حال لم يشرب المريض الماء يمكن إنقاذه خلال ساعتين فقط.
٥- صمت الأهل أو تأخرهم عن إخبار الطبيب بتناول المريض حبة الغلة مساهمة في موته؛ لأن ذلك يختصر على الطبيب كثيراً من الوقت، وكما ذكرت في النقطة الثالثة أننا في سباق مع الزمن.
هذه التعليمات الطبية هي رد الفعل الصحيح لتناول حبة الغلة، لكن عليا أن نتدبر أسباب تناولها من البداية، ولا أظن أن أي منا لا يعلم الأسباب الحقيقية، سأعطيك بعض الأمثلة، شابة تحب شاباً، ورفض أهلها الزواج منه، زوجٌ يعتدي على زوجته، طالبٌ لم يحصل على المجموع الذي ينتظره والداه، فغضبا عليه، وغيرهم من الأمور التي لا تقارن بأهمية حياة الإنسان.
يتوجب علينا أن ندعم، لا أن نحبط، وأن نشجع، لا أن نعارض، وأن نساعد، لا أن نفرق…إلخ.
بحثت عن الأمر، فعلمت أن إحدى المستشفيات سجلت العام الماضي دخول ١٠٠ حالة تسمم بحبة الغلة، مات منهم ٩٨ حالة، والسبب الرئيسي هو التأخر في الوصول إلى المشفى، أليس هذا الأمر كافياً لمنع تداول حبوب الغلة بين العامة؟
دعنا نتناقش من الناحية القانونية، في رأيي -الذي يحتمل الخطأ قبل الصواب- يجب بيع حبة الغلة برخصة زراعية فقط، لماذا يتم بيعها بدون رخصة؟ نحن نتحدث عن أمر خطير أصبح شائعاً في مجتمعنا المصري.
عزيزي القارئ، لكلِّ نتيجة أسبابها، ويتوجب علينا أن نتفهم الأسباب؛ لنعالجها، ونصلح النتائج، فنعيش في مجتمع أفضل.