التسامح ضرورة كونية
بقلم الدكتورة وفاء سمير
تكمن أهمية التسامح في أنه ذا بعد وجودي وضرورة من ضرورات الوجود نفسه …ومما يؤكد ذلك أن سنة الوجود قد اقتضت أن يكون وجود الناس علي الأرض علي شكل تجمعات بشرية متباينة في العرق والدين والبيئة والثقافة ، وقد صرح القرآن الكريم بهذه الحقيقة الكونية الوجودية فقال الله سبحانه وتعالي ( بأبها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعرفوا) الحجرات :١٣، تؤكد هذه الآية القرآنية ماكان قد توصل إليه الحكماء والفلاسفة من قبل وأثبته الواقع التاريخي المشاهد من أن الإنسان مدني بطبعه ، بمعني أنه لا تتحقق حياته ولا تكتمل ذاته ولا يبني كيانه إلا داخل وسط اجتماعي متشابك فيه الخير والشر ، الحب والبغض، فيه التجانس والتنافر ،وفيه الأنا والأنا الآخر .
والأنا الآخر يعني به أهل الحضارات والثقافات الأخري المختلفة عنا … ومن هنا دعا الاسلام إلي التواصل مع الأخر حتي لا يكون المسلم منغلق العقل والفكر بسبب عزلته ، ودعا أيضا إلي الانفتاح علي علوم الأمم الأخري …وقد قدم الكثير من الفلاسفة مثل الكندي والفارابي والجويني وابن رشد وابن سينا وابن مسكوية والغزالي وابن الجوزي ..وقد أسهب الفلاسفة في تعريف الأنا والآخر أيضا ،فمفهوم الأخر متعدد المعاني ومختلف باختلاف وجهات النظر والرؤية البحثية فلسفيا ونفسيا …فيصوغ “أرسطو” مثلا مفهوم الأنا في شكل مبدأ الهوية الذاتية ، أي أن الشيئ يكون هو هو ، أو أن يكون مختلفا له …أما ” ديكارت ” فحاول إقامة مفارقة بين الأنا الفردية الواعية وبين الآخر ،فرفض الموروث من المعارف واعتمد علي إمكانيته الذاتية لأنه يريد أن يصل إلى درجة اليقين العقلي الذي يتصف بالبداهة والوضوح والتميز ، فوجود الغير في إدراك الحقيقة ليس وجودا ضروريا والاعتراف به لا يأتي إلا من خلال قوة الحكم العقلي حيث وجود الغير وجودا استدلاليا …أما ” هيجل ” فاعتبر أن وعي الذات لنفسها من خلال اعتراف الغير بها وهي عملية مزدوجة يقوم بها الغير كما تقوم بها الذات ، واعتراف أحد الطرفين بالآخر لابد أن ينتزع ، ومن هنا تدخل الأنا في صراع مع الأخر حتي الموت .. وقد طرح ” سارتر ” العلاقة بين الأنا والأخر “الغير” في إطار ظاهري ،فالغير ليس انا ولست أنا هو ، وهو لا يمكن أن يؤثر في كينونتي بكينونته فهو شيئ خارج عن ذواتنا ونسلب منه جميع معاني الوعي والحرية والإرادة والمسئولية وهذه العلاقة متبادلة بينهما .
وهناك الأخر المحكوم في الأمير حيث يسدي “مكيافيللي” النصح العامل للحاكم الذي يواجه لؤم المحكوم ، والآخر بصفته حاكما مستبدا لدي ” چورچ أورويل” اي الاخ الاكبر ، والأخر رب العمل عند ” ماركس” في رأس المال ….الخ
كل هذه الرؤي تختلف عن رؤية الأخر عند الفلاسفة المسلمين والذي لابد أن يعامل بالسماحة التي ليست مجرد أقاويل نظرية يصعب تطبيقها ، وليست بريقا ادعائيا يهدف إلي التأثير في نفوس البشر للحصول علي مكاسب مادية ، لكن بسماحة الإسلام التي تتميز بأنها قول وفعل وواقع معاش ، قول من الله ورسوله وتطبيق يقتدي به ويستشعره الإنسان مطبقا له أيضا ، فالإسلام هو الذي يعترف بوجود الآخر المخالف فردا كان أو جماعة والتعايش بين الأديان الأخري بعيدا عن التعصب والتميز العنصري حيث الاعتراف بشرعية الآخر ووجهة نظره الخاصة ويكفي أن نعلم أن القرآن الكريم سمي الشرك دينا علي الرغم من وضوح بطلانه لا لشيئ إلا لأنه في وجدان معتنقيه …فالتسامح لا يمكن أن يكون إلا من الاقوي خلقا ونفسا وعقلا ويتحقق من خلال العفو والصفح والإحسان والرحمة ،فكل هذه القيم من شأنها القضاء علي الصراع والحصان والعنف والاقتتال بين أفراد الأمة لينعم الجميع بحياة تسودها الأمن والأمان والهدوء مع حفظ النفس والمساواة في الحقوق والحرية والعدل حتي يسود التوافق …