وقفاتٌ مع القرآنِ الكريمِ ( ٢ ) .
بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي
إنَّ القرآنَ الكريمَ هو كلامُ ربِّ العالمين ، وحبلهُ المتينُ ، وصراطهُ المستقيمُ ، وهو الذكرُ الحكيمُ الذي لا تزيغُ به الأهواءُ ، ولا تلتبسُ به الألسنةُ ، ولا تتشعبُ معه الآراءُ ، ولا يشبعُ منه العلماءُ ، ولا يملّه الأتقياءُ ، ولا يخلقُ على كثرةِ الردِّ ، ولا تنقضي عجائبه ، من عِلمَ علمه سبقَ ، ومن قالَ به صدقَ ، ومن حكمَ به عدلَ ، ومن عمِلَ به أُجِرَ ، ومن دعا إليه هُديَ إلى صراطٍ مستقيمٍ ، وهو الكتابُ المهيّمنُ ، والمُصدّقُ لما قبله ، وهو الكتابُ الذي حوى بين دفتيّه معالمَ المنهجِ الإلهي المُوصّلُ إلى اللهِ بيْدّ أننا تنكّبنا الصراطَ المستقيم ، واستخدمنا القرآنَ الكريمَ في غيرِ ما أُنزلَ له ، واتخذه بعضنا مهجوراً ، وأرادَ به آخرون الدنيا ضاربينَ الصفحَ عن الآخرة ؛ لذلك كان لابد لنا من وقفاتٍ مع القرآنِ الكريمِ ؛ لتتضحَ بعضُ الأمورِ المُلتبسةِ ، وتُحلُّ بعضُ المسائلِ المُشكِلةِ ، وجاءت هذه الوقفاتُ على النحوِ التالي :
– الوقفةُ الثالثةُ ” حكمُ تعليمِ القرآنِ ، وأخذِ الأجرةِ عليه ” :
إنَّ من أعظمِ القربِ التي يتقربُ بها العبدُ إلى الله – عزَّ وجلَّ – تعلّمُ القرآنِ حفظاً وتلاوةً وتدبّراً ، وكذا تعليمه لغيره حفظاً وتلاوةً وتدبّراً ، قال – ﷺ – : ” خيركم من تعلّمَ القرآنَ وعلّمه ” رواه أبو داود والترمذي .
والأصلُ في العباداتِ أن لا يأخذُ المسلمُ أجراً دنيوياً في مقابلِ القيامِ بها ، ومن أرادَ بطاعتهِ الدنيا فليس له أجرٌ عندَ اللهِ ، قال تعالى : ” من كانَ يريدُ الحياةَ الدنيا وزينتها نوفِّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يُبخسونَ * أولئكَ الذين ليس لهم في الآخرةِ إلا النارُ وحبطَ ما صنعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملونَ ” سورة هود الآيات 15-16، هذا إذا كانت العبادةُ مقتصرةً على صاحبها ، أما إذا تعدّى نفعها إلى غيره بحيثُ ينتفعُ بها غيرُ القائمِ بها كتعليمِ القرآنِ ، فقد اختلفَ العلماءُ في جوازِ أخذِ الأجرةِ عليه ، فمنعه بعضهم مستدلين بقولِ رسولِ الله – ﷺ – : ” تعلّموا القرآنَ ، فإذا علمتموه فلا تغلوا فيه ، ولا تجفوا عنه ، ولا تأكلوا به ، ولا تستكثروا به ” رواه أحمدُ والنسائي ، وأجازه بعضهم ، والراجحُ في المسألةِ :
أنَّ الأولى أن لا يأخذُ المسلمُ عوضاً على تعليمِ القرآنِ إلا إذا دعته الحاجةُ إلى ذلك ، فيأخذُ بقدرِ الضرورةِ ، ولا يشترطُ ، ويكونُ ذلك من قبيلِ الإعانةِ على القيامِ بالتعليمِ لا من قبيلِ الأجرةِ ، هذا إذا كان محتاجاً ، أما من كان غنيّاً فالأولى له أن يستعففَ عن أخذِ شيءٍ في مقابلِ تعليمه للقرآنِ ، وليجعلْ نيته خالصةً لوجهِ اللهِ – تعالى – .
– الوقفةُ الرابعةُ ” المتعجّلونَ أجرَ القرآنِ في الدنيا ” :
حذّرنا النبيُّ – ﷺ – من استعجالِ أجرِ القرآنِ في الدنيا من مالٍ ، أو جاهٍ ، أو منصبٍ ، وعدمِ احتسابِ ذلك في الآخرة ، جاء عن سهلٍ بنِ سعد الساعدي أنّه قال : خرجَ علينا رسولُ الله – ﷺ – يوماً ، ونحنُ نقترئُ – أي نقرأ القرآنَ – ، فقالَ : الحمدُ للهِ ، كتابُ اللهِ واحدٌ ، وفيكم الأحمرُ ، وفيكم الأبيضُ ، وفيكم الأسودُ ، اقرؤوه قبلَ أن يقرأه أقوامٌ يقيمونه كما يُقوَّمُ السهمُ – أي يحسّنونَ به أصواتهم ويتكلفون في مخارجه وصفاته – يتعجّلُ أجره ولا يتأجّله ” رواه أبو داودُ .
وجاءَ عن أبي سعيدٍ الخدري – رضي اللهُ عنه – عن النبيِّ – ﷺ – قال : ” تعلّموا القرآنَ ، وسلوا اللهَ به الجنةَ قبلَ أن يتعلّمه قومٌ يسألونَ به الدنيا ، فإنَّ القرآنَ يتعلّمه ثلاثةٌ : رجلٌ يباهي به ، ورجلٌ يستأكلُ به ، ورجلٌ يقرأه لله ” أورده الألباني في السلسلةِ الصحيحةِ .
بيْدَ أنَّ البعضَ قد خالفَ ، وجعلَ من القرآنِ سبباً للارتزاقِ ، والاستكثارِ من الدنيا ، وتعددت مظاهرُ ذلك ، ومن أشهرها ما يلي :
1- قراءةُ القرآنِ بصوتٍ عالٍ وحسنٍ بعد الصلاةِ ؛ ليصرفَ وجوهَ الناسِ إليه ، وبعدها يتلقى صدقاتهم وأعطياتهم .
2- قراءةُ القرآنِ في الحفلاتِ والأعراسِ ، والمبالغةُ في الأجورِ على ذلك ؛ بالإضافةِ إلى وقوعِ المستأجرِ في مخالفاتِ شرعيةٍ جسيمةٍ ، كالتباهي والتفاخرِ والاستعلاءِ على الناسِ بمقدرته على استئجارِ القارئِ الفلاني ، وامتهانِ القرآنِ بعدمِ الإصغاءِ إليه ، والتدخينِ أثناءَ تلاوته … إلخ .
3- اتخاذُ تلاوته مهنةً ، قالَ الحسنُ :” نزلَ القرآنُ ليُعملَ به ، فاتخذَ الناسُ تلاوته عملاً ” ، وهذا واقعٌ إذ تفرّغَ العديدُ من الشبابِ لقراءةِ القرآنِ بأجرٍ في مجالسِ العزاءِ ، وتتفاوتُ أجورهم بحسبِ حلاوةِ أصواتهم ، وما لهذا نزلَ القرآنُ ، ولا بهذا أُمروا .