لا تئدوا البنات
بقلم د/ شيرين العدوي
في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (284هـ – 362هـ على الأرجح) ظواهر اجتماعية كثيرة. وقد وعدت القارئ تجليتها وكشف النقاب عن مفهومها وأسبابها بصورة مبسطة. من تلك الظواهر ظاهرة “وأد البنات” – بمعنى: قتلها أو دفنها حية- التي تحدث عنها القرآن الكريم في عدة آيات، ظهر من خلالها عوامل الوأد وهي: الخوف من الفقر، و البعد عن عبادة الرضا بما يقسم الله للناس من أرزاق؛ فقال في محكم آياته: “ولَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚإِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا” (سورة الإسراء) و: “وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ” (سورة الأنعام) . في هاتين الآيتين نرى القتل للأولاد بسبب الخوف من الفقر. ففي الأولى “خشية إملاق” وفي الأخرى “من إملاق” .
ومن هنا؛ “الإملاق” – شدة الفقر – لم يقع في الأولى، ولكنه (الإملاق) وقع بالفعل في الثانية؛ ولذلك في السورة الأولى يؤكد الله للناس أن الولد سيأتي برزقه، ولن ينقص من أموال عائلته شيئا؛ و من ثم كان قوله تعالى “نحن نرزقهم” أولا، ثم يتبعها ب “إياكم” . ولما كان الإملاق في السورة الثانية واقعا بالفعل فقد آثرت الآية أن تطمئن الآباء بأن هذا الطفل وتربيته سيكون سببا في رزقهم فقالت: “نحن نرزقكم ” أولا، ثم أتبعته ب “وإياهم” أى فسنغنيكم من أجل تربيتكم لهم، بل وسنجعل لهم رزقا يزيد في أرزاقكم . هنا طمأن الله خلقه على الرزق وحرم قتل الأولاد من الجنسين ولدا كان أم أنثى فقال أولادكم.
وفيما يتصل بالبعد عن عبادة الرضا التي يرى الإنسان فيها أنه لا يرضى بما قسم الله بميلاد الأنثى؛ لأنه يريد ولدا من أجل العزة والمنعة- فلعل ما ورد في القرآن الكريم، وفي الأغاني يبرز ذلك،وبخاصة أن الأخير يعرض لمن اشتهر بوأد البنات ومن اشتهر بإحيائهن والوقوف ضد هذا الجرم. يقول تعالى: ” وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم” (سورة النحل).
هنا يظهر الكفر بعبادة الرضا بكرههم للإناث وربما كشف هذا عن اعتقادهم القديم المغلوط الذي أشارت إليه المصادر من أن البنات رجس من عمل الشيطان، و أنهن خلقن من إله غير آلهتهم ولذلك عنفهم الله بقوله قبل هاتين الآيتين ب ” ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون”؛ فالآية توضح كره وجود الأنثى لأنها ستجلب العار للقبيلة إذا ما أسرت وسبيت؛ فعدم الرضا حسابه عسير حتى لو كان بسبب، ويؤخره الله للآخرة ويظهر ذلك بعد عدة آيات في نفس السورة ، لأن جحود النعمة لن ينصلح بالرزق أو عدمه إذا يؤجل الله عقابه للآخرة.
يورد الأغاني أن ممن اشتهر بوأد البنات قيس بن عاصم – سيد قومه في الجاهلية والإسلام – ؛ فقد منعت تميم الإتاوة عن النعمان بن المنذر ملك الحيرة فأغار عليهم وسبى نساءهم وكانت ممن وقعن في الأسر ابنة قيس؛ فوفد قيس على النعمان ليسترد ابنته، فآثرت سابيها على أبيها؛ فاعتبرها قيس سبة في جبينه، فما ولدت بنت له إلا وأدها حتى اشتهر بذلك. ولم يكن الوأد عامّا في كل القبائل بل في بعضها وهي: تميم ،وقيس، وأسد، وهذيل، وبكر بن وائل. وقد ظهر في المقابل لقب “محيى المؤدات”وهو صعصة بن ناجية بن عقال جد الفرزق الذي كان يفتدي دم الموءودة بالمال من أبيها حتى اشتهر بهذا اللقب. فهل كففنا عن وأد البنات في العصر الحاضر؟ .