مقالات
أحمد الوحش يكتب: يوميات طبيب امتياز “إن عاش”
بقلم الدكتور أحمد الوحش
المرة الأولى التي سمعت فيها عن كلمة “إنعاش” كانت في طفولتي، فتساءلت “ليه بيسموها إن عاش؟”، لقد كنت طفلاً بريئاً كسائر الأطفال، كنا قد درسنا في قواعد اللغة العربية أن استخدام “إن” للشك، كأن الشك يساورهم أن المريض لن يعيش، وقد كان اعتقادي هذا حتى سن الثانية عشر، ومن الطريف أنني عندما دخلت غرفة الإنعاش كطبيب تأكدت أن هذا الطفل بداخلي -الذي أضحك الجميع- قد أوجز في تعريف “الإنعاش”.
كان العمل البارحة صعباً للغاية، فقد تفاجأنا بسيدة متوفية لم نستطع حملها من فرط زيادتها في الوزن، فاضطررنا إلى إنزال السرير أرضاً؛ لنستطيع العمل بشكلٍ أفضل، حاولنا إنعاشها مدة ٣٥ دقيقة؛ حيث يقوم فريق طبي متكامل بإنعاش القلب والرئتين يدوياً، ربما شاهدت في أحد الأفلام طبيباً يضغط على الصدر ١٢٠ مرة في الدقيقة، ويقوم بعمل تنفس صناعي للمريض…إلخ؛ لنحافظ على وظائف الدماغ سليمة، حتى يتم إتخاذ الإجراءات المتقدمة لاحقاً، إنه عمل مرهق للجسد، وأكثر إرهاقاً للمشاعر.
لقد امتزج بداخلي الأمل الكاذب مع اليأس الحتمي، والجهد المتفاني مع العجز البشري، فأن تفعل كل ما هو ممكن؛ لإنقاذ روح إنسان دون نتيجة أمر شاقٌ على النفس.
مرَّ البارحة بصدمته الأولى في غرفة الإعاشة، وشعرت حقاً أن حياة الإنسان لا تُقَدَرُ بثمن.
قررت أن أعودَ اليوم؛ لأنني أتمنى أن أنقذ حياة أحدهم، أود أن أشارك في عملٍ عظيم كهذا العمل، فمن أحياها كأنما أحيا الناس جميعاً…
دخلت الغرفة، فوجدت نائب جراحة المخ والأعصاب يحاول إنقاذ شاباً سقط من أعلى المبنى، نظرت إلى وجهه، فوجدت عينه اليسرى دامية كأنها انفجرت، وتحولت إلى بركة من الدماء، ويتلون محيط عينيه بالزرقة الداكنة، ففهمت أن هناك كسراً في قاع الجمجمة، ثم رأيت جرحاً عميقاً على يسار جبهة الرأس يحاول الطبيب إغلاقه، لكن لفت انتباهي أن النزيف لا يحتوي على دمٍ فقط، فهو ممتزجٌ بقطعٍ صغيرةٍ بيضاء أشبه بالدهن، فسألت الطبيب “هو ده المخ يا دكتور؟”، فأجابني “أيوه، ده المخ؛ لأن العيان عنده فتق بالدماغ”.
ألقيت نظرة على الأشعة المقطعية التي صُوِّرَت فيها رأس المريض، فوجدت أن هناك كسراً في محجر العين اليسرى، وهو التجويف العظمي الذي تستقر فيه العين، وقد أدى ذلك الكسر إلى هبوط كرة العين، لهذا السبب ربما تجلطت الدماء، وظهرت على هيئة كرة حمراء، وتفسيري لهذا الأمر يحتمل الخطأ قبل الصواب؛ لأنه استنتاج شخصي بناءً على اجتهادي في التفكير؛ لأنني لم أشأ أن أزعج الطبيب أثناء عمله في إنقاذ هذه الحالة الحرجة.
جميعنا نؤمن بمعجزات اللّٰه، لكن أن نراها أمامنا، فالأمر مختلف، أخبرني صديقي في اليوم التالي أن هذا الشاب تم إنقاذه، فشعرت بالسعادة.
دقت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، والهدوء يعم المكان، لكن سرعان ما تحول هذا الهدوء غير الاعتيادي إلى عاصفة بعد الساعة الثانية، إنها سيدة خمسينية لديها انصمام رئوي، وهو انسداد في أحد شرايين الرئتين، وهي حالة طارئة، المعهود أننا نحاول إنعاش المريض نصف ساعة كاملة، وبعد ذلك نتوقف، فمهما فعل الأطباء هم في النهاية بشرٌ، لكننا سمعنا في هذه المرة نبضاً، فأعطانا هذا أملاً؛ لنستمر.
أخبرتنا الطبيبة النائبة أنها ستبدأ بوضع الدواء الخاص بالانصمام الرئوي، وسنستمر ساعة ونصف إضافية في إنعاش المريضة، كنا ثلاثة أطباء امتياز فقط؛ حيث شاركني في هذا العمل د.أحمد عصام، ود.عمرو بسيوني فنظر كل منا للآخر، وهو يعلم أن صديقيه قد أرهقهما العمل حدَّ الإعياء، فنصف الساعة شاقة للغاية، فكيف لنا أن نستمر ساعة ونصف!؟
استجمعنا قوانا المنهكة، وقررنا الاستمرار في العمل متوكلين على اللّٰه، وكلما شعرنا بالإرهاق، واليأس قرأنا بعضاً من الأيات القرآنية، لقد أعطينا كل الأسباب البشرية الممكنة؛ لتبقى السيدة علياء -رحمها اللّٰه- على قيد الحياة، لكن توقفت عقارب ساعتها معلنةً وفاتها.
تفاجأنا أن الساعة أصبحت الرابعة والنصف، وقد سمعنا آذان الفجر، فخرجنا؛ لنصلي، إن هذه ليست نوبتجية، لكننا نتعلم، ونساعد قدر الإمكان، فقررنا عدم العودة، فقد اكتفينا بهذا العمل الشاق طوال اليوم.
عزيزي القارئ، إن عمل الطبيب مرهق للغاية، ومسئولية عظيمة لا يشعر بصعوبتها إلا العاملون بالمجال الطبي، وتظل غرفة الانعاش من وجهة نظري “إن عاش”.